القضية الفلسطينيةدراسات

صفقة القرن: التحولات الإقليمية وفرص التطبيق

خالد هنية | باحث فلسطيني

مقدمة:

تمر القضية الفلسطينية في أعقد مرحلة في تاريخها لما فيها من تحولات استراتيجية ومشاريع تصفية وتناقض برامج، وثبات فئة وتوجهات فئة أخرى وانقسام سياسي فلسطيني، وبيئة نظام عربي محل تضارب وتماوج، هذا المسار جاء بعد مرحلة طويلة من النضال السياسي وكذلك المقاوم واختلاف البرامج والهيئات والاعتبارات تجاه القضايا المصيرية التي يقودها فصائل العمل الوطني الفلسطيني، جاءت هذه المرحلة المعقدة في ظل بيئة تحولات عربية جذرية أدت ومازالت إلى تحولات جذرية بنيوية في منظومة العقد الاجتماعي للشعوب وتفسخ علاقات وتقارب تحالفات واتساع مناطق ونفوذ لقوى أخرى ضمن رغباتها التوسعية وتراجع وتصدع قوى أخرى ضمن ضعف قرارها، وعدم قدرتها على امتلاك زمام المبادرة.

جاءت هذه التحولات في ظل المشروع الاستراتيجي التوسعي الذي يهدف للانقضاض على الجغرافيا المحيطة لتجاوز خاصرته الحرجة وعقد الأمن القومي ككيان غريب في المنطقة لا يتطابق مع المنطقة جغرافياً واجتماعياً ونفسياً، هذه العوامل تجعله يبحث عن مسارات تمكنه من خلالها أن يتجاوز تلك العُقد بطروحات تأمنه في المرحلة المقبلة من المخاطر التي يعايشها.

مستندة إلى ذلك في الرؤية الغربية للمنطقة وتشابك الأدوار والمصالح بينهما، تنبعث هذه التعقيدات وفق الاعتبارات الاقليمية الهشة في خلق بيئة تسمح لهم من تحقيق مخططات عبر بوابات يمكن القبول بها في المنطقة، والوصول إلى المناطق الرخوة، وفي الوجه المقابل تصاعد إيران في مشروعها الثوري الذي يتحرك في أكثر من اتجاه وفق حالة من مفهوم تصدير الثورة والتي عملت على تحقيقه منذ تولي المرجعية الدينية ولاية الفقيه زمام الأمر في طهران عام 1978م، والتي تحركت فيه إبان ثورات الربيع العربي في اتجاهات أكثر تعمقاً تتصدر فيه المسار الحيوي للجغرافيا ومخاطرها الجيوسياسية والجيواستراتيجية.

العوامل المحيطة:

التحولات في بيئة النظام العربي بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي، وفوز ترامب في الحكم، والتحولات البنيوية في بيئة النظام العربي، واعتبارات قوى الصعود الإقليمي، والمشروع الاستراتيجي “الاسرائيلي” (الشرق الأوسط الكبير- الشرق الأوسط الجديد)، والواقع السياسي الفلسطيني كالأزمات الداخلية- حصار غزة- والانقسام السياسي والبرامج المختلفة، وانخراط قوى المقاومة الفلسطينية في المحور الإيراني، وتحقيق السلام الاقتصادي، والأمني، والسياسي، والمحاولات في بناء حلف عربي تنخرط فيه “إسرائيل”. ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وإعلان الجولان السوري منطقة إسرائيلية، والخطوات الأمريكية العملية في إنهاء ملف اللاجئين الفلسطينيين، ومؤتمر المنامة الاقتصادي، والسلوك الإقليمي للاحتلال “الإسرائيلي” ودور الولايات المتحدة الأمريكية تجاه ذلك.

المؤشرات:

  • دور السلطة الفلسطينية الوظيفي في خدمة التنسيق الأمني مع الاحتلال.
  • نقل القضية الفلسطينية من التسوية إلى التصفية، فهو استحقاق طبيعي منذ بسط سلطة الاحتلال على الأرض، وتحقيق استراتيجية التصفية.
  • شطب حق العودة- القدس عاصمة للاحتلال، المستوطنات الصهيونية ستبقى ولن يتغير واقعها.
  • أفكار تبادل الأراضي- توسيع قطاع غزة مع أجزاء من الضفة، أو على حساب الجانب المصري من خلال قضم جزء من سيناء بمساحة 720كم.
  • فالفكرة القائمة على دولة حبيسة مقطوعة الأوصال يسيطر عليها الاحتلال وعلى مواردها ومقدرتها.
  • وهنا مازالت تحاول الإدارة الأمريكية في فرض واقع جديد مبني على استغلال حالة الغموض السائدة، حيث إنها خاضعة لتسويق وترويج وهمي، ومن ثم قياس ردات الفعل.

المشهد والتحولات:

لم يكن مسار صفقة القرن وليد اللحظة ليبدأ مع مجيء ترامب للحكم بقدر ما هو مجموعة من العوامل والتحولات التي بنيت على الرؤى الاستعمارية قبل 100عام أي سايكس بيكو، وبعد مائة عام من الأن ترسم القوى الاستعمارية فرض تقسيم جديد قائم على إعادة فك وتركيب المنطقة لصالح إسرائيل وبناء المسارات الجيوسياسية الحاصلة وفقاً لهذا المنظور، فليس عبثاً المسار التي يبنيه الأكراد في سوريا والعراق وتركيا وإيران، في إقامة دولة لهم في تلك الدول.

 وبناء وتحقيق كافة الممرات الحيوية الهامة التي تربط وحداته مع بعضها البعض والممتد من إقليم كردستان إلى الموصل وكركوك، ثم في شمال سوريا وما يعرف بمناطق شرق الفرات، جرابلس منبج عين العرب كوباني وتل أبيض وغيرها من المناطق، والتي تمثل التمركز والسيطرة على المناطق الحيوة، وهو ما سماه البعض الهلال الشيعي التي تسعى أمريكا وإسرائيل لتحقيقه. ليشكل خواصر حرجة وإضعاف سوريا والعراق وتفتيت وحداتها الجغرافية، وهو الذي ينسجم مع نظرية التفوق الإسرائيلية، والتي يتعبر الاحتلال أن الأقليات لا بد أن تقيم دولها، وهو ما صرح به مركز الاستخبارات الاسرائيلية حول هذا الموضوع، وهو ما ينسجم مع عوامل أخرى كالدمج والتغيير الديمغرافي لغير العرب في هذه المنطقة، حيث إن أول مسار كان في ذلك قائماً على تغير اسم المشرق العربي، ليكون الشرق الأوسط، حتى يسمح للوجود الإسرائيلي كغيره من الأقليات الموجودة.

وفي هذا الإطار فإن شكل دولة الأكراد الذي يقطن ويسيطر على الأماكن الحيوية فإنه ككيان صديق لإسرائيل سيضعف الأربع دول التي يتواجد فيها الأكراد، وهو ما يحقق الدمج كما ذكرنا.

وهذا الاتجاه لا يبتعد عن مسار صفقة القرن وتتويجها، والذي ليس وليد اللحظة أو حصل نتيجة وصول حكومات، بقدر ما عززت تلك المؤسسات الجديدة في أمريكا من تعزيز وتسيير العجلة بشكل أفضل.

فربما هذا الملف يعد الآن من أكثر المحطات التي تسعى الأطراف لتحقيقه، لكن لم يكن تحقيق انهيار العراق منذ العام 1991، وكذلك الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، بعد انهاكه بالحصار للوصول إلى حالة التفتيت التي وصل إليها اليوم. فإعادة فك وتركيب المنطقة قائم على قدم وساق.

عناصر القوة:

  • الإجماع الفلسطيني إلى حدِ ما على رفض تلك الصفقة، رغم اختلاف الرؤى والبرامج إلا أنه محدد مهم.
  • قوة وصلابة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وما تمتلكه من مخزون استراتيجي.
  • التحرك الفردي للعمل الشعبي المقاوم والذي يصعب تنبؤه، مما يهدد نظرية الأمن “الإسرائيلي”.
  • إقليمياً: المحور المقاوم الذي يجتمع على العداء لإسرائيل، والرافض للتقسيم.

عناصر الضعف:

  • الانقسام السياسي الفلسطيني، والتي تعمل القوى المعادية للحفاظ عليه، لاستثماره بشكل أكبر لإضعاف الموقف الفلسطيني.
  • إقليمياً: التطبيع العربي القائم مع الاحتلال، وتغير الأولويات في العداء لإسرائيل، إلى صناعة عدو آخر على أساس مذهبي، مما يضعف مكونات المنطقة.

السيناريوهات

في ظل هذه الظروف والتحولات فإننا يمكن أن نفسر الواقع بسيناريوهات ثلاثة وهي كالتالي:

الأول: فشل الصفقة:

هناك عوامل كثيرة تعطي مؤشرات لاحتمالية فشل هذه الصفقة لمجموعة من الاعتبارات وهي:

  • التهديدات القائمة على تنحية ترامب وعدم قدرته على إكمال الفترة الرئاسية الحالية.
  • المحور الإيراني الذي يتسع نفوذه في المنطقة، وتعتبر فصائل المقاومة الفلسطينية ضمن هذا المحور.
  • الرفض العربي للتطبيع مع الاحتلال وهو الذي يشكل عنصر ضغط على الأنظمة العربية المنخرطة في التطبيع.
  • الواقع الاقليمي على الرغم من أن كثيرا من الملفات الشائكة تصب في صالح الصفقة، إلا أن حالة اللااستقرار واضحة إقليمية، في طبيعة البيئة البنيوية للأنظمة العربية الفاعلة.
  • تغيير الفاعلين في الصفقة، على الرغم من أن ذلك لا يؤثر كثيراً إلا أنه يشكل حالة تصدع في المشهد.

الثاني: تجزئة الصفقة: 

ربما هذا السيناريو يتقدم بفعل عوامل متعددة جرى تحقيقها على الأرض، على قاعدة تجزئة الملفات ومنها:

  • نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، كمؤشر أمريكي على الولاية الإسرائيلية عليها.
  • إعلان الجولان إسرائيلية، وهذا جزء من مجريات الأحداث القائم في التغيير.
  • حل مسألة الأونروا وقد جرت مجموعة من الإجراءات ومنها، تسوية أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، تفريغ مخيم اليرموك في سوريا.
  • الضغط الأمريكي على فرض السيادة الإسرائيلية على غور الأردن، وهو الأمر الذي كان جزء من الدعاية الانتخابية لنتنياهو.
  • الاتساع الاستيطاني في الضفة الغربية وقضم أجزاء كبيرة منها.

هذه المؤشرات القائمة على تجزئة وتكسير الملفات للوصول إلى نتيجة مفادها، الوصول إلى تحقيق الصفقة وفرض شروطها، وهو الأمر الذي فيه مساحة من الوقت، ولذلك يتطلب من القوى المعادية لإسرائيل في المنطقة، كسب عامل الوقت للحد من مسار التصفية، وهو الأمر الذي في هذه الأوقات يسير بهذا الاتجاه، في ظل الانشغال الأمريكي في القضايا المتعددة التي صنعتها إيران إقليمياً. إلا أن إيران اليوم ترسم شرق أوسط جديد مناهضا للمشروع الأمريكي في المنطقة.

الثالث: نجاح الصفقة:

وحول نجاح الصفقة، فإنني أعتقد أن أجزاء منها تحققت، وهناك أجزاء لم تتحقق لكن الأمور الظاهرية في صالح تحقيقها، ولو أردنا توصيف الحالة في هذا الأمر، يمكننا القول:

  • إن الصفقة لا تقف عند فلسطين فحسب، بل تمتد إلى إعادة ترتيب المنطقة وفق اعتباراتها الجيوسياسية.
  • إن الغزو الأمريكي للعراق وما تلاه من توجه الولايات المتحدة إلى تغيير وجه الشرق الأوسط ضمن إجراءاتها في تفتيت العراق على اعتباره مركز القوة والثقل لهو جزء من مشروع الشرق الأوسط الجديد.
  • الحالة العربية بعد الثورات، استدعت خطط التدرج لتحقيق المخططات الأمريكية.
  • إذاً ما أود قوله هنا: إن الصفقة بدأت منذ فترة من الزمن كمضمون إلى حدِ ما، لكن شكل الصفقة وتسميتها لعب صانع القرار الأمريكي دورا في تسميتها واستغلال الظروف لتحقيقها.
  • إن حالة التجزئة للملفات توصلنا إلى ما يمكن تسميته نجاح الصفقة.

خلاصة:

إن المشهد الإقليمي يعيش حالة تحولات دراماتيكية ليست بعيدة عن المشهد العام الدولي، في ظل تحولات قطبية وكذلك تحولات إقليمية، ستؤدي في نهايتها إلى شرق أوسط، لكن وفي ظل التحولات الإقليمية كالصعود الإيراني، وكذلك الإجراءات القائمة التي تنبئ بعزل ترامب، وحالة اللااستقرار في البيئة الداخلية الإسرائيلية بسبب حالة اللاحسم في الانتخابات، ربما تتجه الصفقة إلى تجميدها، على الأقل فيما يتعلق بفلسطين.

التوصيات:

  • ضرورة معالجة مفهوم الاصطفاف الإقليمي، وعلى قوى المنطقة أن تكون صاحبة منطقتها.
  • المراهنة على عامل الوقت وإدخال متغيرات تشتت مسار الصفقة وطبيعة أهدافها، ومن أشكال ذلك مسيرات العودة على الحدود مع قطاع غزة، تحقيق معالجة العلاقات الإقليمية في تحشيد نقاط العداء للاحتلال الإسرائيلي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى