أخرى

ما بين صفقة القرن والمصالحة الفلسطينية

خاص | هيئة التحرير

قراءة متأنية للمشهد السياسي تظهر بشكل جلي مدى حساسية المرحلة التي تمر بها قضيتنا الوطنية ومدى التغيرات الدولية والإقليمية التي حدثت في السنوات الماضية وهي بشكل أو بآخر تصب في صالح الاحتلال. فعلى المستوى الدولي؛ لا يزال العالم يرعى ويقدم الدعم للكيان الغاصب والمتمرد على كل القوانين والأعراف الدولية، وقد اكتملت حلقة الانحياز والدعم الدولي الأعمى للاحتلال مع وصول اليمين المسيحي الصهيوني المتطرف إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة العنصري المتطرف دونالد ترامب، الذي يعتبر أن قضايا الشعوب الوطنية عبارة عن صفقات تجارية يمكنه إبرامها متى شاء ومع من شاء.

 أما على المستوى الإقليمي؛ فقد انزلقت المنطقة -وبكل أسف- إلى مستنقع الحروب الطائفية والأهلية والصراعات بالوكالة، وقُمعت الشعوب الطامحة إلى الحرية والكرامة والاستقلال بكل قسوة، ودمرت مجموعة من الدولة العربية المركزية التي كانت تشكل ثقلاً حقيقياً في المنطقة، فتفكك النظام العربي، وباتت بعض الدول العربية ترى في دولة الاحتلال ملاذا وسندا لها، فبدأت بالهرولة نحو التطبيع بطريقة مهينة ومذلة. تزامن هذا الواقع العربي والإقليمي الصعب والمهتريء مع  ضعف فلسطيني داخلي ناجم عن استمرار الانقسام رغم كل الجهد الذي بذل ولا زال يبذل للخروج منه.

إن تقدير مستوى المأزق الذي وصل إليه مسار التسوية والمشروع السياسي الذي تعتمد عليه قيادة السلطة وحركة فتح لم يعد محل نقاش عند معظم النخب الفلسطينية وكذلك الرأي العام، لكن وفي ذات الوقت، فإن الوقوف على التحديات التي تواجهها المقاومة ومشروعها على أكثر من صعيد أمر في غاية الأهمية لتحديد المسارات الممكنة واستراتيجيات الخروج المناسبة لعبور هذه المرحلة المعقدة، فنحن نقف هذه الأيام أمام المشهد الآتي:

  1. على المستوى الدولي؛ لا يوجد حلفاء أو أصدقاء يشكلون سندا حقيقيا دائما وثابتا وداعما للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة كما يراها ويعرّفها هو ومقاومته، فلا زالت حركات المقاومة تصنف “كمنظمات إرهابية”. ويدرك الفلسطينيون أن الغالبية العظمى من أصدقائهم يتحركون ضمن السقف السياسي الأمريكي ولا يستطيعون الخروج عنه، وقد ازدادت مواقف هؤلاء الأصدقاء ضعفا بعد فوز دونالد ترامب حيث صعدت الإدراة الأمريكية من هجومها على الحقوق الفلسطينية، وتم تضييق الخناق على كل القوى والمؤسسات الفلسطينية سياسيا وماليا، في ظل عجز غير مسبوق من الأصدقاء والأشقاء لمد يد العون والمساندة للفلسطينين.
  2. على المستوى الإقليمي؛ أدى انهيار الربيع العربي وتقدم الثورات المضادة، وإعادة الأنظمة القمعية الشمولية الصديقة للكيان الصهيوني، ترتيب أوراقها وعلاقاتها، والاستمرار في استهداف الحركة الإسلامية الوسطية التي تعتبر المقاومة الفلسطينية جزء منها، إلى تضاعف الضغط السياسي والأمني والاقتصادي علىيها، وباتت المقاومة تعتمد بشكل مباشر على صديق وحيد، يصنف عند عدد ليس بقليل من الشعوب والأنظمة في المنطقة كعدو، ويعاني بشكل شديد من الحصار والاستهداف.
  3. على صعيد العدو؛ هناك تقدم كبير على المستوى السياسي، فعدد كبير من الدول تتهافت للتطبيع معه، حتى باتت التيارات والشخصيات المتصهينة أكثر جرأة ووقاحة من أي وقت مضى في التعبير عن ذاتها والمجاهرة بمواقفها المخزية.
  4. على الصعيد الشعبي “الأمة”؛ تعاني المقاومة من ضعف في الإسناد الشعبي ناتج عن بروز مجموعة من القضايا ذات الأولوية بالنسبة للشعوب؛ كالقضية السورية واليمنية والليبية …الخ، فضلا عن معناناتها من نتائج ازدياد تضييق الأنظمة على الشعوب لا سيما في مساندة حركات المقاومة والقضية عموما. يضاف إلى ذلك اهتزاز صورة ما يعرف بحركات الإسلام السياسي نتيجية الربيع العربي وما ترتب عليه من نتائج.
  5. على صعيد الحركات والأحزاب الإسلامية الصديقة؛ تراجعت قدرة هذه الحركات عن دعم المقاومة نتيجة انشغالها بأزماتها القطرية والداخلية، فلا تكاد توجد حركة إسلامية إلا وتعرضت لانتكاسة أو مأزق خلال السنوات الماضية، الأمر الذي زاد من انشغالها بقضاياها القطرية والداخلية.
  6. أما على الصعيد الوطني الداخلي؛ فتعاني المقاومة من سلسلة من الأزمات والصعوبات لاعتبارات موضوعية وأخرى ذاتية.

فقطاع غزة يشكل نقطة القوة والضعف في آن واحد، فبالرغم من تمكن من بناء قوة نوعية على جزء من التراب الوطني الفلسطيني -لأول مرة في تاريخ المقاومة الفلسطينية-، حيث تمكنت هذه القوة وباحتضان مقدّر من الشعب الفلسطيني من التصدي لأكثر من عدوان صهيوني، إلا أن صاحب هذا البناء تحمل كامل أعباء  مليوني فلسطيني على كافة المستويات في ظل حصار خانق من جهات مختلفة.

والشتات الفلسطيني الذي يشكل نقطة قوة كبيرة لكنها -وبكل أسف- غير مستثمرة، فهو يعيش لاعتبارات موضوعية مرتبطة بالتطورات الإقليمية سبق التعرض لبعضها، فضلا عن اعتبارات ذاتية مركبة، وجملة من الأزمات البنيوية والإدراية المرتبطة بتصورات سابقة حول طبيعة الدور والبنية، ويحاول منذ سنوات عدة التأقلم مع الواقع الإقليمي والداخلي الجديد، لكن المشكلة الأساسية تكمن في أن العمل على التغيير في البنية والدور تزامنت مع انفجار جملة من الأزمات جعلت من التغيير أمرا صعبا وغير متوازن، كما أنه تزامن أيضا مع مرحلة شتات جديد يعيشها الشعب الفلسطيني في الخارج لا سيما في سوريا ولبنان التي كانت معاقل للمقاومة. كل ذلك حد بشكل كبير من قدرة قيادة الحركات الوطنية في الخارج على إحداث التوازن المطلوب مع الداخل وأزماته وتحدياته. فبدلا من أن يشكل الخارج سندا للداخل وصمام أمان له في وقت الشدة، صار -وبكل أسف- عبئا إضافيا ومركزا مهما للأزمة الوطنية.

أما الضفة الغربية التي تشكل في هذه اللحظة مكمن الضعف والقوة، فعلى الصعيد الوطني العام وباعتبار الضفة مركز الصراع المرحلي مع الاحتلال، فإن المعركة فيها محتدمة وإن كانت هادئة، وهي -وبكل أسف- تسير لصالح الاحتلال الذي يتقدم بشكل يومي في مشروعه الاستيطاني الاحتلالي، فتهويد القدس وزيادة عدد المستوطنين والمستوطنات والجدار …..وغيرها من الأدوات تعمل يوميا لحسم المعركة، وفي ذات الوقت -ولاعتبارات ذاتية وموضوعية- فإن الفلسطيني يبدو عاجزا عن التصدي لأي من إجراءات الاحتلال.

أما على صعيد المقاومة فهي لا تزال غير قادرة على إعادة الاعتبار لدورها بصيغته الشاملة، كما أنها غير قادرة أيضا -ولأسباب عديدة -على التصدي الفعّال للمشروع الصهيوني، ولا يزال واقع المقاومة في الضفة الغربية واحدا من أكبر المعضلات التي تثنيها عن التأثير الجوهري في المعادلة السياسية القائمة.

استنادا إلى ما سبق، ورغم أن مقاومة شعبنا حال دون تمرير العديد من مشاريع التصفية للقضية الفلسطينية، إلا أنه ومنذ عدة سنوات مضت وحتى يومنا هذا، يظهر أن الاحتلال يتقدم ويعزز من أوراقه ميدانيا وسياسيا، فيما تتراجع وتتآكل أوراق قوى المقاومة وقوتها بشكل قد يشكل خطرا مزدوجا عليها وعلى القضية الفلسطينية.

وعليه، وفي ظل التهديدات المحدقة وعلى رأسها ما يسمى بصفقة القرن، لا بد أولا من العمل بجدية للخروج من الحالة الراهنة لأن الاستمرار فيها يشكل خطرا كبيرا، وتزداد خطورته مع مرور الوقت، كما لا بد من بلورة مقترحات تتجاوز العقبات الكامنة في طريق النهوض وتساعد في الحفاظ على الذات، وتراعي البيئة القائمة بما فيها من أوراق قوة وضعف، خاصة في ظل العجز عن الخروج من مأزق الانقسام.

لكن ورغم كل ما سبق وكما عهدنا شعبنا دائما، فإن لديه القدرة والاستعداد للتقدم، -حتى في ظل قيادة ضعيفة- لحماية قضيته والذود عنها، وهو اليوم ورغم البيئة السياسية الهشة داخليا وخارجيا، ورغم الحصار الخانق الذي تفرضه أطراف عدة على أهلنا ومقاومتنا في قطاع غزة، في حالة لم سبق له  ولمقاومتة أن كانا في هذا المستوى من القوةً والمنعةً عُدةً وعتاداً. لذلك فإن القوى الفلسطينية مدعوة للإيمان والعمل وفق الأسس الآتية كي نتمكن من الخروج من هذه اللحظة التاريخية الحرجة والارتقاء إلى مستوى طموحات وآمال شعبنا:

  • الشراكة الوطنية، لنكن جميعا شركاء في الدم وشركاء في القرار ولنشترك جميعا في قرارت الحرب والسلم، ولندير صراعنا مع هذا الاحتلال المجرم يدا بيد وكتفا بكتف.
  • الاحتكام واحترام إرادة الشعب الفلسطيني عبر إجراء الانتخابات لكافة مؤسساتنا السياسية، بعيدا عن الانتقائية التي تخدم أهدافا حزبية ضيقة.
  • الحفاظ على مؤسساتنا السياسية التمثيلية القائمة، وبالذات منظمة التحرير الفلسطينية، والعمل على تقويتها وإعادة الاعتبار لها عبر اشراك الكل الفلسطيني فيها بما يعزز شرعيتها التمثيلية وطنيا ودوليا.
  • رفض الإقصاء للآخر الوطني أو تهميشه أو التشكيك فيه أو الاصطفاف مع أي طرف كان في مواجهته، وبالذات في القضايا الوطنية الكبرى.
  • البحث الدائم عن المشترك الوطني مع كل الفصائل الفلسطينية، وتعظيم هذا المشترك، والتجاوز عن الخلافات -إن وجدت -من أجل تمتين جبهتنا الوطنية في مواجهة المحتل، وعل في مسيرات العودة وغرفة العمليات المشتركة ومبادرة متحدون في مواجهة صفقة القرن أمثلة على ذلك.

في ضوء ما سبق ذكره وتقديرا لحجم المخاطر المحدقة وتعقيد وصعوبة اللحظة التاريخية التي نمر بها، فإننا بحاجة إلى أمريين هامين، الأول: إعمال العقل في الحلول والخطوات النضالية والوطنية اللازمة لمواجهة هذه التحديات، والثاني: التشمير عن السواعد وبذل الجهد لتغيير هذا الواقع، سيما في الحالة الوطنية، للانطلاق مجددا نحو دحر العدو وهزيمة مشروعة وإنجاز حقوقنا والذود عن حيضانا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى