القضية الفلسطينيةدراسات

في الاقتصاد السياسي لأزمة المقاصَّة الفلسطينية

معاذ العامودي |منتدى السياسات العربية

توطئة:

وَفق حاجة المجتمع الدولي إلى إيجاد كِيان سياسي في الأراضي الفِلَسطينية قادر على تحقيق الاستقرار، ومحاولات (عقلنة) الحالة الثورية الفِلَسطينية ضمن مرجعية معترَف بها دوليًّا -وإن كانت لا تتَّخذ شكل الدولة- والولوج نحو الديمقراطية عبر إنشاء مؤسَّسات صناعة القرار الفِلَسطينية من المجلس التشريعي ومجلس السلطة الفِلَسطينية، وصولًا إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية، نشأت السلطة الفِلَسطينية في عام 1993 نشأة مشوَّهة منقوصة السيادة[1]، تبعها عدم الْتزام المانحين تطبيقَ المراحل الانتقالية فيما يتوافق مع الانتقال الديمقراطي. وعلى الرغم من أنَّ المرحلة الانتقالية الأولى (مرحلة أوسلو الأولى 1993-1998) شهدت التدفُّق الأسرع والأكبر من المساعدات الدولية، فإنها لم تنقُل الفِلَسطينيين نحو تنمية اقتصادية حقيقية، أو تغيُّرات لصالح سيادتهم على مواردهم المالية في المراحل التي تبعتها، بل ظلَّت تُراكِم نقص السيادة الفِلَسطينية، وصولًا إلى شكلها الحالي الأكثر تعقيدًا.

ولقد كانت الإشكالية الدائمة في ربط مسار المساعدات الدولية، أو إيرادات المقاصَّة، بالمسار الأمني والسياسي على الأرض، بغضِّ النظر عن حاجة السلطة إلى المال أو التنمية أو السيادة. يعني أنه إذا أراد الفِلَسطينيون المال من مساعدات ومنح أو إيرادات مقاصَّة، فعليهم الْتزام الأمن لإسرائيل، ونبذ الكفاح المسلَّح. وقد ظلَّ الابتزاز المالي حاضرًا مع الأحداث السياسية، خصوصًا فيما يتعلَّق بإيرادات المقاصَّة من منع وتقليص، لكن دون أن يسمح ذلك بتفكُّك السلطة، مع إبقائها في حاجة دائمة إلى المال لسداد عجزها. وقد حاولت السلطة تعزيز البدائل المتوافرة لديها من إيرادات الجباية وإيرادات المقاصَّة والاستدانة من البنوك المحلِّية، هربًا من المشروطية السياسية للمساعدات الدولية.

وعلى الرغم من أهمِّية إيرادات المقاصَّة لتمويل موازنة السلطة الفِلَسطينية على الدوام، فإنها ظلَّت خاضعة لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي، والتغيُّرات السياسية على الأرض، وهو ما أدخلها في أزمة مالية خانقة منذ فبراير 2019 بعد قطع المساعدات الأمريكية عنها، والتي كانت تمثِّل 30% من إجمالي المساعدات والمنح المباشرة لموازنة السلطة، ورفض الأخيرة تسلُّم إيرادات المقاصَّة منقوصةً وَفق رغبة الاحتلال الإسرائيلي. ما اضطَرَّها إلى الاستدانة من البنوك الفِلَسطينية الخاصَّة، وتقليص رواتب موظَّفي القطاع العامّ، فدفعها ذلك إلى التوجُّه إلى جامعة الدول العربية، طلبًا لشبكة أمان مالي تنقذها من التفكُّك.

لقد شكَّلت إيرادات المقاصَّة تحدِّيًا للمجتمع الدولي بدايةً في إلزام الاحتلال الإسرائيلي الاتِّفاقياتِ الموقَّعةَ مع السلطة الفِلَسطينية، وإمكانية تعزيز الحوكمة داخل المؤسَّسات الفِلَسطينية، واعتماد السلطة على المقاصَّة في تغطية إنفاقها. لكنَّ تخوُّفات المجتمع الدولي من عجز السلطة عن إدارتها أو تحويل مساراتها إلى اتِّجاهات ثورية، وضعتها تحت إدارة الاحتلال الإسرائيلي وسيطرته، وقرنت التحديثات على ملفِّ إدارتها للَّجنة المشتركة بين إسرائيل والسلطة الفِلَسطينية، والتي لم تجتمع لتحسينات إدارة الملفِّ إطلاقًا.

لكنَّ مسارًا جديدًا اتَّخذه الاحتلال “الإسرائيلي” منذ عام 2019 في تعامله مع إيرادات المقاصَّة الفِلَسطينية، لمحاولة فرض اقتطاعات مشروطة لأجل تحويلها إلى السلطة. تبع ذلك أزمة اقتصادية حادَّة تهدِّد وجود السلطة من ناحية، والاستقرار الأمني في الضفَّة الغربية بانعكاسه على الاحتلال الإسرائيلي من ناحية أخرى. لذا، تعالج المادَّة ظروف نشأة إيرادات المقاصَّة بمشروطيتها، إضافةً إلى دورها في دعم موازنة السلطة، والضغوطات الإسرائيلية السياسية على الفِلَسطينيين باستخدام إيرادات المقاصَّة.

  • نشأة إيرادات المقاصَّة:

تُعدُّ إيرادات المقاصَّة هي إيرادات الضرائب التي يجبيها الاحتلال “الإسرائيلي” نيابةً عن السلطة الفِلَسطينية وَفق بروتوكول باريس، وتشتمل على ثلاثة أنواع من الضرائب وهي: 1- الضرائب المباشِرة، وتمثِّل ضريبة الدخل على أجور العمَّال الفِلَسطينيين في إسرائيل والمستوطنات[3]. 2- الضرائب غير المباشِرة على المستوردات من “إسرائيل”: القيمة المضافة على جميع السلع المستورَدة من “إسرائيل”، وضريبة الشراء على مشتقَّات النفط والسجائر والكحول فقط. 3- الضرائب غير المباشِرة على المستورَدات من الخارج: ضريبة القيمة المضافة والجمارك وضريبة الشراء وغيرها، وتقتطع “إسرائيل” نسبة 3٪ من المبلغ لقاء خدمات التحصيل والجباية التي تؤدِّيها، لكنَّ هذا المبلغ يخضع للرقابة “الإسرائيلية” فقط، أي إنَّ النسبة غير محدَّدة تمامًا. وبالرجوع إلى وزارة المالية الفِلَسطينية، فإنَّ هناك اختلافًا بين إيرادات المقاصَّة على أساس نقدي، وإيرادات المقاصَّة حسَب الالتزام الفعلي[4]، وتكشف هذه الاختلافات الاختلال في تعامل الاحتلال مع ملفِّ إيرادات المقاصَّة.

  • مصادر تمويل موازنة السلطة الفِلَسطينية:

تعتمد السلطة الفِلَسطينية على ثلاث مصادر لتمويل موازنتها السنوية، المصدر الأول هو الدعم الخارجي، كالمنح والمساعدات الخارجية، وقد أخذ الحجم الأكبر من نسبة دعم الموازنة حتى عام 2010، إذ كان يشكِّل ما نسبته 50-55٪ من دعم الموازنة. وتمثِّل إيرادات المقاصَّة من الاحتلال “الإسرائيلي” المصدرَ الثاني لتمويل الموازنة، والتي صارت تشكِّل ما نسبته 50-55٪ من إيرادات موازنة السلطة الفِلَسطينية في 2017-2019. وتُعدُّ الإيرادات المحلِّية التي تمثِّل الإيرادات الضريبية وغير الضريبية المصدرَ الثالث لتمويل موازنة السلطة.

ومع تنامي دور المقاصَّة لتشكِّل الجزء الأكبر من تمويل موازنة السلطة، دون قدرة الاحتلال على التحكُّم باقتصاص مبالغ منها، بصفتها حقًّا فِلَسطينيًّا لا يتَّخذ شكل المساعدات الدولية، أو دون حاجته إلى إثارة قضايا اقتصادية تؤثِّر في مسار اتِّفاقية باريس في المؤسَّسات والمحاكم الدولية، كان من الضروري أن يعيد الاحتلال الإسرائيلي تشكيل المقاصَّة بما يتوافق مع مفهوم السيطرة، في ظلِّ السيطرة وفرصة الخطوات الأمريكية السياسية المتصاعدة ضدَّ الفِلَسطينيين. خصوصًا بعد رفض السلطة العودة إلى مفاوضات السلام احتجاجًا على قرارات الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) بعدِّ القدس عاصمةً لإسرائيل، وقطع المساعدات الأمريكية بالكامل عن موازنة السلطة، إذ كانت غالبيتها تذهب إلى قُوى الأمن الفِلَسطينية، أو إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا).

ويكشف الشكل رقم (1) حجم إيرادات السلطة بأنواعها الثلاثة، مع زيادة في نسبة إيرادات المقاصَّة والجباية على حساب تناقص المنح المساعدات الدولية، إذ إنَّ المقاصَّة بلغت في عام 2018 ما قيمته 2255.3 مليون دولار، بنسبة 54.6٪ من إجمالي إيرادات موازنة السلطة الفِلَسطينية، وما نسبته 61.7٪ من إجمالي النفقات العامَّة والإقراض لموازنة السلطة، بمعدَّل شهري بلغ ما بين 193.7-199.4 مليون دولار، أي إنَّ اعتماد السلطة كبير على إيرادات المقاصَّة لتغطية نفقات القطاع العامّ.

ويُظهِر الشكل (1) التراجع في المساعدات الدولية لارتفاع مشروطيتها السياسية، في حين تزداد إيرادات الجباية المحلِّية، ما يشكِّل خطرًا على المواطن الفِلَسطيني في ظلِّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها الأراضي الفِلَسطينية[5].

المصدر: التقارير المالية الصادرة عن سلطة النقد الفِلَسطينية[6].

ويكشف الشكل رقم (2) منحنى تزايُد الاعتماد على إيرادات المقاصَّة منذ عام 2010 مقابل المنح والمساعدات التي يقدِّمها مجتمع المانحين للسلطة الفِلَسطينية، إضافةً إلى زيادة إيرادات الجباية من السلطة الفِلَسطينية لتعويض النقص في المساعدات الدولية.

 

ضمن سياسة التحالف الأمريكية مع الاحتلال الإسرائيلي، ضغط الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) على السلطة الفِلَسطينية لعودتها إلى المفاوضات أو فرض حقائق على أرض الواقع، بوقف المساعدات الأمريكية لموازنة السلطة، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا). وقد تزامن ذلك مع سياسات جديدة اتَّخذها الاحتلال الإسرائيلي بشأن إيرادات المقاصَّة، شملت اقتطاع مبلغ 11.3مليون دولار من إيرادات المقاصَّة، بحجَّة أنها تذهب إلى عوائل «إرهابيين»، المقصود بهم عائلات الأسرى والجرحى والشهداء الفِلَسطينيين. ويقع هذا المسار الجديد لإيرادات المقاصَّة ضمن نطاق سيطرة الاحتلال “الإسرائيلي”، وخارج نطاق سيطرة السلطة الفِلَسطينية. ويتصاحب مع متغيِّرات سياسية تتعلَّق بالسيادة على الأراضي الفِلَسطينية، ومحاولات الاحتلال “الإسرائيلي” فرضَ سيطرته على منطقة الأغوار الفِلَسطينية، التي تبلغ مساحتها 28٪ من مساحة الضفَّة الغربية المحتلَّة.

  • ابتزاز الفِلَسطينيين في إيرادات المقاصَّة:

على مسار تاريخ إيرادات المقاصَّة الفِلَسطينية، لجأ الاحتلال الإسرائيلي إلى تجميد تحويلات أموال المقاصَّة وإيقافها، لاستخدامها ورقةَ ضغط سياسية على السلطة الفِلَسطينية. وقد ترافقت فترات التجميد مع التغيُّرات السياسية على الأرض، كما أنَّ المقاصَّة منذ عام 2011 كانت ورقة الضغط الأساسية على السلطة الفِلَسطينية للحدِّ من جهودها الدبلوماسية الدولية. ويكشف الجدول (1) تواريخ الإيقاف والـتأجيل لعائدات المقاصَّة بالتزامن مع فترات الحَراك السياسي للسلطة في المجتمع الدولي مع تجميد أموال المقاصَّة.

 

جدول رقم (1) فترات إيقاف أو تأجيل تحويلات المقاصَّة للسلطة الفِلَسطينية
فترات إيقاف تحويلات المقاصَّة أو تأجيلها الحجج “الإسرائيلية”
أغسطس 1997 – سبتمبر 1997 توتُّر أمني
ديسمبر 2000 – ديسمبر 2002 الانتفاضة الثانية
مارس 2006 – يونيو 2007 فوز حركة حماس في الانتخابات
مايو 2011 التقدُّم بطلب الاعتراف بدولة فِلَسطين
نوفمبر 2011 الانضمام إلى اليونسكو
ديسمبر 2012 – يناير 2013 قبول فِلَسطين دولةً غير عضو في الأمم المتَّحدة
أبريل 2014 تقدُّم فِلَسطين بطلب للانضمام إلى الوكالات المتخصِّصة في الأمم المتَّحدة
ديسمبر 2014- مارس 2015 انضمام فِلَسطين إلى محكمة الجنايات الدولية
فبراير 2019-مستمر الإيقاف حتى سبتمبر2019 رفض السلطة تسلُّم المقاصَّة، ردَّ فعل على اقتطاع مبالغ مالية منها، تُقدِّمها لعائلات الشهداء والأسرى والجرحى، إذ تَعدُّها إسرائيل عمليات مالية لتغذية الإرهاب

وكانت المقاصَّة الاختبار الأكبر لجدِّية المجتمع الدولي من ناحية، والاحتلال الإسرائيلي والوسيط الأمريكي من ناحية أخرى، في تعزيز الديمقراطية الفِلَسطينية. فقد سارع الاحتلال إلى وقف تحويلات إيرادات المقاصَّة فور فوز حماس بالانتخابات الفِلَسطينية، وتوافق ذلك مع ما قاله الأمين العامُّ للأمم المتَّحدة سابقًا (كوفي عنان)، في اجتماع اللجنة الرباعية الذي عُقد في لندن 27-1-2006، أي بعد يومين فقط من نتائج الانتخابات التشريعية الفِلَسطينية: «علينا مراجعة أيِّ مساعدة لأيِّ حكومة فِلَسطينية جديدة في المستقبل، في ضوء الْتزام هذه الحكومة مبدأَ نبذ العنف والاعتراف بإسرائيل، وقبول الاتِّفاقيات والالتزامات التي عملت بها الحكومات الفِلَسطينية السابقة». تبع ذلك قطعُ إيرادات المقاصَّة من إسرائيل عن الحكومة التي شكَّلتها حماس، حتى الانقسام الفِلَسطيني وتشكيل حكومة ثانية في الضفَّة الغربية.

وفي الاجتماع نفسه، علَّق (دينيس روس) مبعوث السلام في الشرق الأوسط قائلًا: «من حقِّ الناخبين أن يختاروا مَن يشاؤون، ومن حقِّنا أن نتعامل مع مَن نشاء، فالانتخابات لا تصنع ديمقراطية، وليس علينا أن ندعم من يرفضون معتقداتنا». إلَّا إنَّ تصريح الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر)، الذي ترأَّس لجنة مراقبة الانتخابات الفِلَسطينية، كان مخالفًا للسياق السابق، إذ قال في اجتماع اللجنة الرباعية نفسه: «هذه إحدى أنزه الانتخابات التي راقبتها في حياتي، وأكثرها حرِّيةً. خفِّفوا الضغوط على الفِلَسطينيين وعلى حماس قبل فرض الشروط عليهم»[7].

وتكشف التصريحات السابقة تعزيزًا ضمنيًّا لما فعله الاحتلال الإسرائيلي من وقف تحويلات المقاصَّة فورًا للحكومة التي شكَّلتها حركة حماس، حتى إن كان فوزها ضمن النظام السياسي الفِلَسطيني الذي تشكَّل في أوسلو، وإن كانت المقاصَّة ضمن الاتِّفاقيات الموقَّعة بين السلطة الفِلَسطينية والاحتلال الإسرائيلي، ما يعني أنَّ المقاصَّة كانت معطِّلًا للمسار السياسي الديمقراطي الفِلَسطيني.

ومن خلال الجدول رقم (1)، يظهر الارتباط الوثيق بين فترات الإيقاف والقَطع لتحويل إيرادات المقاصَّة إلى السلطة الفِلَسطينية من الاحتلال الإسرائيلي، بالمسار السياسي والأمني على الأرض. ويظهر الضغط الإسرائيلي من خلال المقاصَّة منذ عام 2011 حتى عام 2016 على السلطة الفِلَسطينية، لصدِّها عن جهودها السياسية الدولية أحادية الجانب، بعد إخفاق الوسيط الأمريكي في تعزيز الحضور الفِلَسطيني في المنظَّمات الدولية، وعدم الْتزام الاحتلال الاتِّفاقياتِ الموقَّعةَ مع السلطة الفِلَسطينية.

وقد تبنَّى الاحتلال استراتيجية فرض سياسته على إيرادات المقاصَّة عبر رفع المشروطية السياسية، فقد اقتطع مبلغ 11.3 مليون دولار من إيرادات المقاصَّة بحجَّة أنها تذهب إلى عوائل الشهداء والجرحى والأسرى الفِلَسطينيين بوصفهم إرهابيين، وهو ما رفضته السلطة الفِلَسطينية، إضافةً إلى مصادقة لجنة الخارجية والأمن -التابعة للكنيست الإسرائيلي- بالإجماع على مقترح اقتطاع أموال التعويضات التي تُدفع للمستوطنين في منطقة غلاف غزَّة، بسبب أضرار الحرائق من أموال المقاصَّة[8].

وقد اقتطع الاحتلال في تاريخ 15-8-2019 ما يعادل 3.6 مليون دولار لصالح 51 فِلَسطينيًّا وجَّهت إليهم السلطة الفِلَسطينية تهمة التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي «عملاءَ» منذ بداية التسعينيات وحتى مطلع الألفية الثالثة، لفِرارهم من سجون السلطة الفِلَسطينية إلى “إسرائيل” عام 2002، خلال عملية السور الواقي[9].

ويُظهِر تدرُّج الاقتطاعات من أموال المقاصَّة للسلطة الفِلَسطينية بتسارع حادٍّ التحكُّم في المورد الأكبر والأخير لموازنة السلطة، لإرهاقها ماليًّا، استعدادًا لقبول صفقات سياسية جديدة. لكنَّ هذا التسارع لا يشير بالضرورة إلى رغبة الاحتلال “الإسرائيلي” في حلِّ السلطة الفِلَسطينية، فقد كشف (شلومو إلدار) الكاتب “الإسرائيلي” والمختصُّ في العلاقات الفِلَسطينية “الإسرائيلية”، أنَّ المؤسَّسة السياسية والأمنية “الإسرائيلية” قد سارعت في تحويل 570 مليون دولار عاجل إلى الجانب الفِلَسطيني ضمن ضريبة (البلو) على الوقود، بناءً على مشورة الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” لمنع انهيار السلطة، وسط تحذيرات من اختلال مستويات التنسيق الأمني بسبب الأزمة المالية الحادَّة التي تمرُّ بها السلطة[10].

  • خطوات السلطة الفِلَسطينية لتجاوز أزمة المقاصَّة:

اتَّخذت السلطة الفِلَسطينية عدَّة خطوات اقتصادية لتجاوز الأزمة الحادَّة في موازنتها والناتجة عن وقف إيرادات المقاصَّة، وقد تزامنت مع خطوات سياسية لمحاولة تعزيز السيادة الفِلَسطينية على الأرض، وكانت الخطوات على النحو التالي:

  1. التصعيد في لهجة الخطاب السياسي للسلطة:

    للمرة الأولى منذ نشأة السلطة الفِلَسطينية، يتصاعد الخطاب السياسي الفِلَسطيني[11] احتجاجًا على إجراءات أمريكية وإسرائيلية مختلفة. واستباقًا لورشة المنامة الاقتصادية، شمل التغيُّر في الخطاب الفِلَسطيني مصطلحات جديدة مثل «الكرامة – السيادة – المال المسيَّس – أوهام المليارات – الحلُّ السياسي أولًا…».

    إذ صرَّح الرئيس الفِلَسطيني محمود عبَّاس في 27-5-2019 قائلًا: «إنَّ مَن يريد حلَّ القضية الفِلَسطينية عليه أن يبدأ بالقضية السياسية، وليس ببيع أوهام المليارات التي لا نعلِّق عليها آمالًا ولا نقبل بها، لأنَّ قضيتنا سياسية بامتياز»[12]. جاء هذا في سياق متَّصل مع تصريحات رئيس الحكومة الفِلَسطينية محمَّد اشتيّة في 20-5-2019، الذي قال: «السلطة ترفض مقايضة الموقف الوطني بالمال… الأزمة المالية التي تعيشها السلطة نتيجة حرب مالية هدفها الابتزاز… السلطة الفِلَسطينية لا تتحدَّث عن شروط تحسين حياة تحت الاحتلال “الإسرائيلي”»[13].

    في ظلِّ تصاعد خطاب السلطة السياسي مع تصاعد الخطوات المصاحبة له، قرَّرت السلطة الفِلَسطينية التوجُّه إلى المحكمة العليا للتحكيم الدولي في لاهاي، لمناقشة عدَّة ملفَّات اقتصادية، وهي: «اقتطاع أموال المقاصَّة، ورسوم بدل الجباية المقدَّرة بـ3%، التي تأخذها “إسرائيل” لتحصيل الإيرادات الجمركية نيابةً عن السلطة، والضرائب الإسرائيلية على المنشآت التجارية في المناطق (ج)، والضرائب غير المسترَدَّة لعمل شركات الاتِّصالات الإسرائيلية في الضفَّة الغربية». وقد حاولت السلطة التواصل مع الاحتلال الإسرائيلي من خلال وسطاء للإفراج عن المقاصَّة دون اقتطاعها، لكنَّ الاحتلال رفض ذلك، ممَّا جعل السلطة تبدأ في المواجهة القانونية معه[14].

    تجدر الإشارة إلى أنَّ الاحتلال “الإسرائيلي” قد اقتطع أموال المقاصَّة بموافقة أمريكية، باعتبار أنَّ الأموال المقتطَعة تهدِّد أمن “إسرائيل”، وهو ما يضعف الموقف الفِلَسطيني، إضافةً إلى أنَّ السلطة ليست عضوًا في محكمة العدل الدولية، وقد ضعَّف تأخير هذه الخطوة موقف السلطة، فهي لم تتَّجه إلى التحكيم الدولي سابقًا حين اقتطعت إسرائيل أموال المقاصَّة عدَّة مرَّات، حتى في عصر الرئيس الفِلَسطيني الراحل ياسر عرفات، وفي الوقت الذي يجوب فيه جدل قانوني حول أحقِّية السلطة بالتوجُّه إلى المحكمة الدولية، بسبب عدم ورود ذلك في اتِّفاقية باريس.

    وقد قصدت السلطة من وراء التصعيد في خطابها السياسي البحث عن وسيط جديد، إضافةً إلى دفع جامعة الدول العربية ودول الاتِّحاد الأوروبِّي إلى تبنِّي مواقف أكثر إنصافًا من حالة التضييق والتفرُّد المستمرِّ من الإدارة الأمريكية. ولعلَّ الإشارة المتكرِّرة إلى قضايا السيادة والمال المسيَّس قد لا تجدي نفعًا ما دامت بقيت مرتهَنةً للاتِّفاقيات الأمنية من ناحية، ومستقبل بقاء السلطة وَفق الإرادة الإسرائيلية من ناحية أخرى.

  2. البحث عن شبكة أمان عربية بديلة:

    وفي خطابه أمام وزراء خارجية جامعة الدول العربية[15]، في الاجتماع الذي عُقد يوم 22-4-2019 بالقاهرة، طالب الرئيس الفِلَسطيني محمود عبَّاس الجامعةَ بتوفير مبلغ 100 مليون دولار كشبكة أمان مالي للسلطة الفِلَسطينية، أمام تحدِّيات الابتزاز الإسرائيلية والأمريكية فيما يتعلَّق بالتمويل -تحديدًا أموال المقاصَّة. وقد صرَّح في الاجتماع قائلًا: «الفِلَسطينيون يواجهون أخطر التحدِّيات في تاريخهم، وأدعو الدول العربية إلى منح الفِلَسطينيين شبكة أمان سياسية ومالية». وهذا التصريح يتَّسق تمامًا مع تصعيد الخطاب السياسي للسلطة بصفته خطوةً أولى دافعة إلى استجابة الأطراف لمحاولة إنقاذ السلطة.

    وفي هذا السياق، فإنَّ الدول العربية لم تلتزم تعهُّداتِها المالية، وهو ما يفسِّر اتِّجاه السلطة الفِلَسطينية إلى الاقتراض من البنوك المحلِّية. فقد صرَّح وزير الخارجية وشؤون المغتربين الفِلَسطينيين، رياض المالكي، عبر تلفزيون فِلَسطين الرسمي قائلًا: «الدول العربية لم توفِ بتعهُّداتها المالية لصالح شبكة الأمان لفِلَسطين حتى اللحظة، ما عدا السعودية، التي تدفع حصَّتها البالغة 14٪ بشكل مستمرٍّ كلَّ ثلاثة شهور، أي ما يعادل 20 مليون دولار».

    حتى مستوى الحديث مع الأطراف العربية كان في سياق تصاعدي واضح، إذ قال المالكي: «دبلوماسيًّا، لا نستطيع أن نحرج أحدًا في قضايا تتعلَّق بالمال، لكننا نحرج الجميع إذا تعلَّق الأمر بمواقف سياسية». لكن إلى الآن، لم تتَّخذ الدول العربية خطوات اقتصادية متسارعة لأجل وقف أزمة السلطة المالية الناتجة عن المقاصَّة.

  3. العلاج بالاستدانة:

    أقدمت الحكومة الفِلَسطينية برئاسة محمَّد اشتيّة على الاقتراض من البنوك العاملة في السوق المحلِّية، لوقف آثار الانهيار الاقتصادي وإدارة أزمة المقاصَّة الحالية، ولسداد رواتب القطاع العامّ. لكنَّ هذا أدَّى إلى تراكم الديون على الحكومة، إذ وصل حجم الاقتراض إلى 500 مليون دولار لتوفير النفقات العامَّة وفاتورة رواتب الموظَّفين العموميين، ممَّا تسبَّب في أزمة سيولة لدى المصارف المحلِّية، وَفق ما صرَّح به وزير المالية الفِلَسطيني شكري بشارة[16].

    وتظلُّ هذه الخطوة في إطار مؤقَّت على المدى القصير، إذ رأت السلطة أنَّ هذا الخِيار المؤقَّت كافٍ لإيجاد بدائل -عربية خصوصًا- لدعم موازنة السلطة، دون الحاجة إلى إيرادات المقاصَّة مقتطَعةً منها رواتب عائلات الأسرى والشهداء والجرحى تحت المشروطية السياسية للاحتلال. لكنَّ حدَّ الاقتراض وصل إلى ذروته، فلم تعد المصارف المحلِّية تحتمل مزيدًا من القروض التي قد تتسبَّب في أزمة سيولة حادَّة لها، مع وقف المشاريع التنموية الخاصَّة بتطوير الاقتصاد الفِلَسطيني.

    وقد صاحب استدانةَ السلطة من البنوك المحلِّية إجراءات تقشُّف شملت تقليصًا لرواتب الموظَّفين حتى 60%، إضافةً إلى رفع إيرادات الجباية المحلِّية. وكلُّ هذه الإجراءات لم تمنع التدهور الحادَّ في ميزانية السلطة[17].

  4. خطَّة الانفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي:

منذ نشأتها، لم تحقِّق السلطة أيَّ إزاحة توسُّعية بخصوص مواردها المالية، واعتمدت بشكل أساسي على المساعدات الدولية وإيرادات المقاصَّة وَفق السيادة المنقوصة لها. كما لم ينجح الاقتصاد الفِلَسطيني في تحقيق مستويات مرجوَّة في سياق التنمية، الأمر الذي يؤكِّد فرْضية صعوبة تحقيق انفكاك اقتصادي خارج الاتِّفاقيات الاقتصادية والأمنية الموقَّعة مع الاحتلال الإسرائيلي، بَدءًا باتِّفاق أوسلو السياسي وما لحقه من اتِّفاقيات، كاتِّفاقية باريس الاقتصادية.

أمَّا الخطوات الأمريكية المتسارعة تجاه الصراع والمتماهية مع المصالح الإسرائيلية، وعلى رأسها الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وما لحقها من نقل للسفارة الأمريكية إليها، ووقف مساعدات الأونروا، وإغلاق مكتب منظَّمة التحرير في واشنطن، ثم الخطوات التي تلتها من اقتطاع الاحتلال الإسرائيلي من أموال المقاصَّة تحت ذرائع مختلفة، فكان لها دور رئيسي في اتِّخاذ المجلس المركزي قرارًا -لم يُنفَّذ إلى الآن- يقضي بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل في 25-7-2019.

ثم تبع هذا القرار خطوات اتَّخذتها حكومة اشتيّة من شأنها تعزيز الانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال الإسرائيلي، شملت وقف التحويلات الطبِّية إلى المستشفيات الإسرائيلية، إضافةً إلى وقف استيراد سلع زراعية شملت (البندورة والخيار والعنب والتمور وزيت الزيتون والدجاج اللاحم والحبش والبيض والعجول)، في الوقت الذي قرَّرت فيه الحكومة الفِلَسطينية دعمَ المشاريع الاستثمارية في منطقة الأغوار.

وقد تهدف تلك الإجراءات إلى الانفكاك اقتصاديًّا عن الاحتلال، إلَّا إنها تبقى ذات تأثير ضئيل طالما بقيت منفصلةً عن الاتِّفاقيات الأمنية والاقتصادية الموقَّعة بين الطرفين، إذ إنَّ جميع الخطوات الاقتصادية ترتبط بالسيادة على المعابر أولًا (حركة التصدير والإيراد)، والسيادة على الأرض ثانيًا (المشاريع التنموية الزراعية والاقتصادية)، وكلُّها تحتاج إلى دعم سياسي واقتصادي عربي، يفتح خطوط تصدير وإيراد عبر دول الجوار، تُقلِّل تحكُّم الاحتلال الإسرائيلي بتفاصيل المقاصَّة وحركة الصادرات والواردات.

  • تأثيرات أزمة المقاصَّة.. الرهان والسيناريوهات:

سيناريوهات عدَّة تتدحرج أمام رفضِ السلطة الفِلَسطينية تسلُّم أموال المقاصَّة منقوصةً، ومحاولاتِ تعزيز استقلال اقتصادي فِلَسطيني مرتبط بالدول العربية، وتوفيرِ شبكة أمان مالية عربية للسلطة، وتخوُّفِ الاحتلال الإسرائيلي من انهيار السلطة ماليًّا، ما يؤثِّر في استقرار الأوضاع في الضفَّة الغربية.

ولعلَّها المرة الأولى التي ترفض فيها السلطة أنصاف الحلول فيما يتعلَّق بالمشروطية السياسية الإسرائيلية على مواردها المالية، ورفضها الفصل بين السياسي والاقتصادي، فلا ينفكُّ مسؤولون فِلَسطينيون عن التصريح[18] أنه «لن يُتخلَّى عن عائلات الشهداء والأسرى»، ما يعني أنَّ الطريق ما يزال مسدودًا أمام المفاوضات بين الطرفين، خصوصًا فيما يتعلَّق بالاتِّفاقيات الاقتصادية.

  1. إنقاذ السلطة تدريجيًّا دون وقف السيادة “الإسرائيلية” على أموال المقاصَّة:

يتَّبع الاحتلال الإسرائيلي سيناريو عدم السماح بانهيار الاتِّفاقيات الأمنية مع السلطة الفِلَسطينية، ومحاولة الفصل بين الاتِّفاقيات الأمنية ووجود السلطة الفِلَسطينية بصفتها كِيانًا (فصل الأمني عن الاقتصادي، والاقتصادي عن السياسي)، لذلك لن يسمح بانهيار السلطة الفِلَسطينية في المرحلة الحالية، في ظلِّ ترتيبات أمنية لم تنضج بعد، لكنَّ أبرز ملامحها يتمثَّل في إبراز أطراف فِلَسطينية أمنية نافذة وفاعلة، تقبل بالتحسينات الاقتصادية خارج سياق الموقف السياسي للسلطة الفِلَسطينية.

لذلك، يراهن الاحتلال الإسرائيلي على سياسة تدرُّج الحلول واجتزائها، بما لا يسمح بانهيار السلطة الفِلَسطينية وانعكاسه على طبيعة الوضع السياسي والأمني في الضفَّة الغربية. فقد طرح الاحتلال الإسرائيلي على قيادات أمنية فِلَسطينية في الآونة الأخيرة تحسينات اقتصادية لاتِّفاقية باريس الاقتصادية، وهذه التحسينات وإن كانت جدِّية، أو فوق حجم توقُّع السلطة الفِلَسطينية، فهي -في نهاية المطاف- تسعى إلى سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على مسار المقاصَّة -المورد المالي الأكبر- للسلطة الفِلَسطينية، بما يتقاطع مع شِقِّه السياسي (السيادة الإسرائيلية على الأرض). وسيسمح الاحتلال الإسرائيلي بخطوات تعزِّز الإنتاجية الفِلَسطينية المحلِّية، لأنَّ تكلِفة استقلاليتها وتوفيرها أقلُّ من تكلِفة انهيار السلطة، ففي نهاية المطاف، ما يزال الاحتلال يُحكم سيطرته على الاقتصاد الفِلَسطيني بشقَّيه الكلِّي والجزئي.

وقد قدَّم الاحتلال الإسرائيلي تسهيلات جديدة تتعلَّق بوقف ضريبة (البلو) التي يفرضها على واردات الوقود الفِلَسطينية من إسرائيل، لتتمكَّن السلطة من جبايتها عبر إيراداتها المحلِّية من التجَّار الفِلَسطينيين كمسكِّناتٍ اقتصادية تمنع الانهيار، وطَرَح كذلك تسهيلات جديدة فيما يتعلَّق باتِّفاقية باريس الاقتصادية، وحركة المعابر، لكنَّ السلطة ما تزال متمسِّكة بقرارها عدم تسلُّم المقاصَّة منقوصةً.

وعلى الصعيد العربي، فهناك توجُّه عربي واضح يسعى إلى إنقاذ السلطة ماليًّا، فقد دعمت كلٌّ من السعودية والإمارات وقطر موازنة السلطة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) على فترات متقطِّعة، لأنَّ غياب السلطة يعني غياب كِيان سياسي فِلَسطيني معترَف به دوليًّا، يكون في الإمكان التواصل معه رسميًّا. وستدعم دول عربية السلطة الفِلَسطينية سواء موازنتها بشكل مباشر، أو متعدِّد الأطراف كمساعدات إغاثية وتنموية عبر الصناديق والمؤسَّسات المالية العربية، مثل: (الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والبنك الإسلامي للتنمية…).

  1. انهيار السلطة ماليًّا، وعودة الأوضاع السياسية والأمنية في الضفَّة الغربية إلى الاشتباك:

إنَّ استمرار الوضع على ما هو عليه سيؤدِّي في النهاية إلى حركة احتجاجات اجتماعية شعبية في الضفَّة الغربية وقطاع غزَّة، للمطالبة بصرف أجور القطاع العامّ، سيصل إلى سيناريو انهيار السلطة الفِلَسطينية ماليًّا وإعلان إفلاسها، أو اقتراضها من صندوق النقد الدولي والمؤسَّسات المالية الدولية، الأمر الذي يُفضي إلى تعزيز شكل جديد من التبعية، ظلَّت السلطة الفِلَسطينية تتفاداه باعتمادها على المساعدات الدولية لتسديد العجز في ميزانيتها، إذ لم يصل إجمالي الدين الفِلَسطيني الخارجي العامِّ إلى مرحلة الخطر من قبل.

كلُّ ذلك يعزِّز ضعف سيناريو ترك السلطة الفِلَسطينية تتفكَّك ماليًّا أو تعلن إفلاسها في هذه المرحلة، لا إسرائيليًّا ولا عربيًّا ولا أوروبِّيًّا، ما لم يتَّجه الفِلَسطينيون نحو الاشتباك نتيجة الإفلاس المالي. أمَّا بقاء الموارد المالية للسلطة الفِلَسطينية تضيق بطريقتها الحالية المتسارعة دون تراجع السلطة عن موقفها، فسيُفضي ذلك إلى تدهور الأوضاع السياسية والأمنية في الضفَّة الغربية، وانهيارها.

المراجع والهوامش:

[1] يتطرَّق مفهوم السيادة في الأساس إلى عدم تدخُّل أيِّ مصادر أو هيئات خارجية في قرارات السلطة الحاكمة، وإن كان يتَّخذ في شكله الداخلي للنظم السياسية مدى سيطرة السلطة العليا على الأنظمة السياسية، إلَّا إنَّ السيادة -في سياق البحث- يأتي في مفهومها الأول مدى تحكُّم السلطة الفِلَسطينية في استحقاقات الوصول والسيطرة على الأرض والمياه والمعابر، وهي أهمُّ مقوِّمات الاقتصاد للدولة.

[2] شكَّل اتِّفاق بروتوكول باريس الاقتصادي الموقَّع في 29 نيسان 1994 الملحق باتِّفاقية إعلان المبادئ (اتِّفاقية أوسلو)، الاتِّفاقَ التعاقدي الذي يحكم العلاقات الاقتصادية بين الطرفين الفِلَسطيني والإسرائيلي. ومن أبرز ما تضمَّنه بروتوكول باريس بعموميته التي تعتمد على الالتزام الأخلاقي بين الطرفين لتطبيقها، أنه أبقى على نظام الاتِّحاد الجمركي بين الاقتصادين الفِلَسطيني والإسرائيلي، في ظلِّ غياب الحدود الاقتصادية بين الطرفين التي كانت قبل اتِّفاق أوسلو، وحلِّها لأمر واقع إلى حالة تعاقدية بين الطرفين. وينظِّم الاتِّفاق أيضًا العلاقات التجارية والنقدية والمالية بين الطرفين، إذ نصَّ البروتكول على آلية جباية وتقاصِّ الضرائب والجمارك، وتنظيم عمل العمَّال الفِلَسطينيين في إسرائيل. وقد جرت إضافة -بعد التعديلات- على المادَّتين المتعلِّقتين بالضرائب المباشِرة وغير المباشِرة في 28-9-1995.

[3] لا تُعدُّ ضرائب الدخل على أجور العمَّال الفِلَسطينيين في إسرائيل والمستوطنات جزءًا من آلية المقاصَّة، فعمليات المقاصَّة تتعلَّق فقط بتبادل (تقاصِّ) فواتير المشتريات الفِلَسطينية من الخارج (البيان الجمركي) والمشتريات من الطرف الفِلَسطيني والإسرائيلي، لتسوية حسابات الضرائب غير المباشِرة بينهما. لكنَّ إحصاءات وزارة المالية الفِلَسطينية تعامل ضرائب الدخل على أنها أحد بنود إيرادات المقاصَّة، وتُحوَّل الضريبة على دخل العمَّال الفِلَسطينيين في إسرائيل والمستوطنات إلى وزارة المالية كلَّ ثلاثة أو ستَّة شهور، وليس شهريًّا كما هو حال الضرائب غير المباشِرة. وتستقطع إسرائيل لنفسها 25٪ من ضرائب الدخل هذه قبل تحويلها إلى السلطة الفِلَسطينية، وهو ما أشار إليه نعمان كنفاني وسلام صلاح في دراسة نُشرت في المرقب الاجتماعي والاقتصادي لمعهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفِلَسطيني (ماس)، بعنوان: تجميد أموال المقاصَّة أزمة متكرِّرة وآثار اقتصادية طويلة الأمد، مايو 2015، على الرابط التالي: https://2u.pw/uz83h

[4] في هذا السياق، من الضروري الإشارة إلى أنَّ إسرائيل اقتطعت 300 مليون شيكل في 26-2-2015 من أموال المقاصَّة لتسديد جزء من ديون السلطة الفلسطينية لشركة الكهرباء الإسرائيلية، التي كانت تبلغ وقتها 1.9 مليار شيكل. وقد شكَّك مجلس الوزراء الفلسطيني في صحَّة أرقام الديون لشركة الكهرباء، لأنَّ قراءة العدَّادات وفحصها في 230 نقطة ربط للشبكة الفلسطينية بالشركة الإسرائيلية، غير متاح للجانب الفِلَسطيني، ويجري من قِبل متعهِّد تابع للشركة الإسرائيلية، تبعًا للبيان الصحفي الصادر عن مجلس الوزراء الفِلَسطيني في جلسته رقْم 41. من أجل معلومات عن الإشكالات المتوافقة مع الديون لشركة المياه، يمكن مراجعة المراقب، العدد 32: “ميكوروت تطالب سلطة المياه بنصف مليار شيكل”.

[5] استُعين بالتقارير المالية الصادرة عن سلطة النقد الفِلَسطينية على أساس نقدي ضمن سلسلة بيانات كاملة منذ 1996 وحتى 2018، نتيجة عدم وجود بيانات كاملة متَّسقة صادرة عن وزارة المالية. مع ملاحظة وجود اختلاف بسيط في الأرقام الصادرة عن وزارة المالية.

[6] لمتابعة التقارير المالية الصادرة عن سلطة النقد الفِلَسطينية، يُرجع إلى الرابط التالي: https://cuu.me/2cc.

[7] يمكن متابعة تصريحات كلٍّ من كوفي عنان وجيمي كارتر من خلال ما نشرته جريدة القدس العربي اللندنية، العدد 5187، في 2 فبراير، 2006، ص4، عبر الرابط التالي: https://2u.pw/t1rV0

[8] “الاحتلال يقتطع تعويضات أضرار الحرائق من ميزانية السلطة”، عبر موقع عرب 48، تاريخ النشر 11-6-2018، تاريخ الدخول للموقع 13-9-2019، عبر الرابط التالي: https://2u.pw/InrKo

[9] أحمد، ملحم. “إسرائيل تقتطع قرابة 13 مليون شيكل من أموال الضرائب الفِلَسطينية لصالح متهمين بالتعامل معها”، موقع المونيتور الأمريكي، تاريخ النشر 3-9-2019، تاريخ الدخول للموقع 13-9-2019، على الرابط التالي: https://2u.pw/Pc3TO

[10] Eldar, Shlomi. “Israel, PA find creative ways to save West Bank from economic collapse”, ALMONITOR THE PULSE OF THE MIDDLE EAST, 29-8-2019. Read more: https://2u.pw/WdWW8

[11] كانت التصريحات الصادرة من رأس الهرم السياسي الفِلَسطيني كلُّها في اتِّجاه تصاعدي فيما يتعلَّق بالأمريكان أو الإسرائيليين، فقد صرَّح الرئيس الفِلَسطيني محمود عبَّاس قائلًا «إنَّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لا يؤمن بالسلام، ويتذرَّع بعدم وجود شريك فِلَسطيني، وإنَّ إسرائيل نقضت جميع الاتِّفاقيات المبرَمة بيننا وبينها، وتنتهك اتِّفاقية باريس لاقتطاعها أموال المقاصَّة الفِلَسطينية، فهي لم تطبِّق قرارًا دوليًّا واحدًا منذ عام 1947، وذلك بتشجيع من الولايات المتَّحدة الأمريكية».

[12] تصريح الرئيس الفِلَسطيني محمود عبَّاس، وكالة وفا الرسمية للسلطة الفِلَسطينية للأنباء، بتاريخ 27-5-2019، على الرابط: https://2u.pw/xhwRd.

[13] تصريح رئيس الوزراء الفِلَسطيني محمَّد اشتيّة عبر صفحته الخاصَّة على فيسبوك، نُشر في 20-5-2019 على الرابط: https://2u.pw/m22qw

[14] تصريح الناطق باسم الحكومة الفِلَسطينية إبراهيم ملحم، موقع الوطن الفِلَسطيني الإلكتروني، نُشر في تاريخ 6-9-2019، عبر الرابط التالي: https://cutt.us/QgC51

[15] أكَّد البيان الختامي لاجتماع القمَّة العربية بتونس في مايو 2015 «الْتزام الدول العربية دعمَ الموازنة الفِلَسطينية، وتنفيذ قرار قمَّة تونس بتفعيل شبكة أمان مالية بمبلغ 100 مليون دولار أمريكي شهريًّا، لمواجهة الضغوط السياسية والمالية التي تتعرَّض لها القضية الفِلَسطينية».

[16] تصريح وزير المالية الفِلَسطيني شكري بشارة، لقاء مع الصحفيين وسط مدينة رام الله، نُشر في 4-9-2019 عبر الرابط التالي: https://2u.pw/TNurz

[17] Abu Amer, Adnan. “Abbas making rounds to drum up financial support”, ALMONITOR THE PULSE OF THE MIDDLE EAST, 29-8-2019. Read more: https://2u.pw/prsCB

[18] في فترات متتالية، ما يزال مسؤولون في السلطة -في مقدِّمتهم رئيس الحكومة الفِلَسطينية محمَّد اشتيّة، أو الناطقون باسم الحكومة، أو أعضاء في اللجنة المركزية لمنظَّمة التحرير الفِلَسطينية- يصرِّحون حول رفض السلطة التخلِّيَ عن أسر الشهداء والأسرى، وتسلُّمَ أموال المقاصَّة منقوصةً منها رواتبهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى