الذئب المنفرد: نخبة الزمان والمكان

جبريل جبريل
قالوا في صفات الذئب بأنه لا يأكل الجيفة مهما كان جوعه، وهو مضرب المثل في الشجاعة والدهاء، ذكي إلى حد أن تفكيره قريب من تفكير الإنسان، ولا يرجع عادة من الطريق الذي جاء منه، ولا يُروض كما يُروض كثير من أبناء البشر ليألفو المُحتل، ويبقى على طريقه حتى لو سار وحيدا وخالفه كل الكون.
في 14 يونيو من عام 1800م، كان قائد الحملة الفرنسية في المشرق كليبر ذاهبا بصحبة المهندس المعماري “بروتان” لتناول الغداء مع مجموعة من القادة، وبينما كان كليبر وبروتان يسيران في الحديقة خرج عليهما رجل واقترب من كليبر مستجديا شيئا، ولم يَرتَب كليبر من نوايا الرجل فمد إليه يده، فطعنه سليمان الحلبي طعنة في قلبه، وأسرع بروتان للإمساك به فكان نصيبه ست طعنات سقط بها على الأرض، وعاد الحلبي إلى كليبر مرة أخرى وأجهز عليه.
كانت هذه العملية ردا على الإرهاب والذل الذي أوقعه الفرنسيون بالشعب المصري، فجاء الرد من هذا الشاب الحلبي الشامي ابن 24عاما، حيث كان بتلك الفترة يدرس بالأزهر وبعد ذلك أُعدم، وكان أُعدمَ أمام عينيه من قبل أربعةٌ من رفاقه الغزاويين لأنهم حفظوا سره.
واحتفظ الفرنسيون بجمجمته إلى الآن في أحد متاحفهم وهي بجانب جمجمة فيلسوف فرنسا الأكبر ديكارت.
لقد غير هذا الشاب بعمله الفردي وجه مصر، حيث انسحب الفرنسيون عنها بالعام التالي من مقتل كليبر، وهذا ما أجمع عليه المؤرخون.
من الإجحاف بحق الشعوب والعصور أن نحدد زمن ومكان ظهور الذئاب المنفردة (العمليات الفردية)، فمنذ القدم أوغل العلماء والفلاسفة في وصف التاريخ ودور الفرد في صناعته، لذا علينا القول أن العمل الفردي والمبادرة الفردية التي تغلفت في كثير من الأحيان بغلاف القائد الذي صنع التاريخ، هي موجودة منذ بدء البشرية. وفي عصرنا الحديث على سبيل المثال لا الحصر عرف العالم ظاهرة الذئب المنفرد في الحركات الثورية الروسية عام 1848، وحركات التحرر ضد الاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى، ونحن الفلسطينيين عرفناها من قبل ومن بعد، ولا أنسب التفوق الحضاري أو المعرفي لنا، لكن كان لنا ومازال خصوصية تفرض علينا الإبداع في هذا الجانب بسبب واقعنا مع الاحتلال، ووضعنا الداخلي الراهن الذي أنهك المنظمات والفصائل الفلسطينية بسبب التنسيق الأمني، فكان لابد من هذه الظاهرة -ظاهرة الذئب المنفرد أو العمل الفردي أو المقاتل النخبة – كي تواجه الإجراءات القمعية والأمنية في محاربة المقاومين، وتسد الفراغ الذي أحدثته تلك الحالة من غياب العمل المنظم، فيتغير هنا كل شيء … تغير الشكل والتوقيت والهدف ، فلا تجد تسلسلا هرميا أو تنظيميا تلاحقه ولا توقيتا تضع الكمين له، ولا تعرف الهدف فتأخذ حذرك عنده، ولا تواصلا فتتنصت عليه ولا ممولا ولا ولا…..إلخ .
هنا أيضا ضياع للمواصفات المشتركة بين منفذي العمليات الفردية؛ فمنهم ابن المدينة وابن القرية والمتعلم وقليل العلم والفقير والغني…
هنا تضيع بوصلة جهاز الشاباك فلا يعرف أين يوجه جهده الاستخباري، ويتخبط بعده الجيش أين يعزز قوته وأين وأين …
إنها الأيدي المتوضئة…
والأرجل المغبرة التي يفوح منها الإخلاص في العمل، فهم لا يرجون من فعلتهم عرَض الدنيا. فبالواقع إن معظم العمليات الفردية لا تعود بأي مكسب دنيوي على منفذيها، بل على العكس تماما، ولسان حالهم يقول (وعجلت إليك ربي لترضى).
فتحترب على أجسادهم رائحتان…المسك والبارود.
قال الفيلسوف الألماني هيجل في كتابه “فلسفة الحق” ( إن الرجل العظيم في العصر هو الذي يستطيع أن يعبر عن إرادة عصره)، نعم إن الرجل العظيم هو الذي يحمل هم شعبه فيوجه طاقته الكامنة التي تكونت من فهمه لواقعه وعصره فيندفع في الوقت المناسب واللحظة الحاسمة ليقول أنا لها أنا لها… وهو بذلك يرى نفسه ممثلًا شرعيًا للوطن وصانعا لمجده.
إن التاريخ الإنساني لا يحتفظ في ذاكرته الشريفة إلا بهؤلاء الأشخاص الاستثنائيين.
فما زلنا نردد قصة الصحابي أبو بصير رضي الله عنه وقول الرسول (ص) فيه :”ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه رجال”، وهذا سليمان الحلبي الذي قضى على مشروع فرنسا بمصر بسكين، وهذا العزوني عابد المريحة الشبيطي الذي أجهز على دوماس قائد الجيش الفرنسي في حملة نابليون ضد جبال نابلس، حيث أحرق جيشه وسميت نابلس على إثرها “بجبل النار”، وعشرات العمليات الفردية في الانتفاضات الفلسطينية المعاصرة والتي نفذت بامكانيات بسيطة.
كيف ننسى مسدس معتز حجازي الذي أصاب يهودا غليك رأس العنصرية والتهويد للأقصى؟؟
كيف ننسى كارلو نشأت ملحم وأبناء جبارين، كيف ننسى عبوة الاستشهادي فادي عامر التي صنعت من كبريت المنزل؟
هم القادة الذين فهموا ضرورة لحظتهم، هم النخبة الذين اندفعوا نحو الهدف، ولم يعبئوا بمن خلفهم ولم ينتظروا إرشادا من أحد أو تمويلا من جهة أو تصفيقا من نخب عابثة، حفروا قبورهم بسيوفهم فكانت أرحب من هذه الدنيا عليهم. لم يرضوا بأن يكونوا مع الخوالف ولسان حالهم يقول “ألا ان شرف الهلاك خير من نذالة الحياة”(الرافعي).