الشباب الفلسطيني بين التغيير وعدم الاكتراث

مؤسسة الدراسات الفلسطينية | ليث أبو صبيح
بعد إعلان صفقة القرن، كانت المراهنات على ردات الفعل الجماهيرية الفلسطينية كبيرة جداً، ولا سيما الفئات الشبابية منها، بَيد أن الواقع لم يكن كذلك. ففي الوقت الذي كان الجيل الشاب في طليعة أي حراك جماهيري فلسطيني، لم يعد الأمر كذلك.
قبل زهاء عقدين من الزمن، وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في سنة 2000، ودخول أريئيل شارون باحات المسجد الأقصى، اجتاحت الشارع الفلسطيني أمواج الغضب الشعبي العارمة واشتعلت شرارة الانتفاضة الثانية. وكان للشباب في هذه الانتفاضة الجماهيرية الباع الأطول. الآن وفي هذه اللحظات الحرجة بعدما خرجت الصفقة الأميركية إلى العلن، لم تَرقَ ردة الفعل الفلسطينية إلى مستوى الحدث. والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا كان الحراك الشعبي الرافض لصفقة القرن حراكاً خجولاً؟ وهل يعود ذلك إلى انحدار مكانة القضية الفلسطينية، وخصوصاً أن المسار السياسي الفلسطيني كان قد ارتهن للتسوية الأميركية – الإسرائيلية، بحيث أن هذا الارتهان انعكس على كل شيء؟
ثمة أهمية لمساءلة السلوك السياسي لجيل الشباب الفلسطيني، وجلّه نشأ في ظل اتفاق أوسلو وسلطته، بشأن كيفية تعامله مع القضايا الوطنية، وكذلك لماذا اعتبرت الإدارة الأميركية وحكومة الاحتلال هذه الظروف تحديداً مواتية لإعلان هذه الصفقة التي اختزلت حق تقرير المصير بنظام أبارتهايد وضعت حكومة الاحتلال الإسرائيلية أسسه على أرض الواقع.
لا يمكن عزل ظواهر التفاعل السياسي عن الاقتصاد، إذ يبدو واضحاً أن الاقتصاد الفلسطيني يعيش انهيارات متواصلة جرّاء علاقات التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، فضلاً عن العقوبات المفروضة على السلطة، بما في ذلك اقتطاع أموال المقاصة وحجزها، وقطع المساعدات الأميركية عن السلطة والأونروا، الأمر الذي أثّر بطبيعة الحال في الأوضاع المعيشية للشباب الفلسطيني، ومن تجلياتها حالة البطالة المتفاقمة وما تجلبه من شعور بالإحباط.
لقد أدت الأزمة الاقتصادية إلى تغير في أولويات جيش العاطلين عن العمل، وهو ما استغله فريق كوشنير عبر تقديم حل اقتصادي مرواغ جاء على غراره أيضاً الحل السياسي في الصفقة. وقد تساوقت إسرائيل مع ذلك، فأعلن مكتب الإدارة المدنية للاحتلال في مدينة الخليل، وهي المدينة الأكبر في الضفة الغربية، عن رفع المنع الأمني، وإصدار تصاريح عمل داخل الأراضي المحتلة منذ سنة 1948، فكان شباب المدينة الذين يملؤون ردهات مبنى الإدارة المدنية بحثاً عن فرصة عمل، أكثر من أولئك الذين نزلوا إلى الشوارع تنديداً بإعلان ترامب.
لم تأتِ هذه الخطوة الإسرائيلية وليدة المصادفة، فإذا نظرنا إلى الأعداد المتزايدة من الأيدي العاملة الفلسطينية التي تعمل في أراضي ١٩٤٨، نستطيع أن نتصور إلى أي مستوى من الضيق وصلت الأوضاع المعيشية الفلسطينية. وفي هذا السياق يجدر بنا أن نذكر تأثير الانخراط في السوق الإسرائيلية في السلوك الاجتماعي والسياسي الفلسطيني، ومستوى التناقض بين مجتمعنا ومجتمع الاستعمار، هذا التناقض الذي من الطبيعي أن يكون محتدماً بفعل نهب الموارد وقمع البشر، غير أنه يشهد تشوشاً وتقلصاً مستمرين لدى الفئات الشابة، وما انفك يتضاءل باطّراد. ويمكن رصد هذا التضاؤل والتغيرات السلوكية على سبيل المثال، في بعض القرى الفلسطينية التي يعمل جل شبابها في أراضي 1948.
إن السبب الاقتصادي ليس السبب الوحيد بكل تأكيد، إذ لا يمكن إغفال الفجوة وعدم الثقة بين الجيل الفلسطيني الشاب والنخبة السياسية الحالية التي تشكل النظام السياسي الفلسطيني. ففي هذه الظروف المعقدة، لم تعد شعارات إقامة دولة بديلاً من الاحتلال كافية لإكسابها الشرعية اللازمة للاستمرار في وقت يتعمق الاحتلال والاستيطان في الواقع، فالنظام السياسي لم يعد قادراً على إنتاج ثقافة سياسية متجددة، ولا على إيجاد توازن وتناغم بين مؤسسات السلطة، وهو أمر يشكل عجزاً صارخاً في إعادة الثقة ورأب الصدع بين السلطة والقيادة من جهة، والجماهير من جهة ثانية، وخصوصاً الفئات الشابة التي تعاني يومياً جرّاء الهيمنة الاستعمارية الناهبة لكل شيء فلسطيني، وتلمس في الوقت ذاته علاقات التبعية التي تربط السلطة بالاحتلال.
لقد دخل خطاب النخبة السياسية الفلسطينية في طور العجز، ولم يبقَ فيه صفة غير التكرار، الأمر الذي جعله فاقداً للآذان الصاغية، ومثله أيضاً، خطاب الأحزاب والحركات السياسية والقوى الوطنية التي انفصلت عن نبض ومعاناة الجماهير اللازمين للقيام بعمليات التعبئة والتحشيد وربط التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي والاقتصادي. وقد انعكس ذلك ضعفاً ملحوظاً في الأطر الشبابية والحركة الطلابية المؤطرة داخل الجامعات والمدارس، أي ضعفاً إضافياً في النشاط السياسي للشباب، مثلما تجلى في ردة الفعل على صفقة القرن.
وفي ظل افتقار الخطاب السياسي الخشبي إلى ما ينسجم مع الحالة الشعبية، يبرز التساؤل عن دور مؤسسات المجتمع المدني في توجيه طاقات الشباب المادية والفكرية نحو بناء ثقافة وطنية وسياسية تحيي العامل الاجتماعي، وتبني الذات التي تنشغل بالقضايا الوطنية بقدر انشغالها بشؤونها الحياتية الأُخرى. ولا يخفى غياب هذا الدور، بحيث أصبحت هذه المؤسسات، بما فيها الأطر النقابية والأهلية، لا تُعنى بصوغ المادة المكونة لنشأة هذه الشخصية الوطنية لدى أجيال ما بعد أوسلو، بقدر ما تُعنى بأن تصبح في ذاتها هيكلاً وظيفياً يجني العاملون فيه فوائد فردية على صعيدَي المكانة الاجتماعية والموارد المادية.
فضلاً عن هذه المحاور المؤثرة في السلوك السياسي للشباب والشابات، هناك أيضاً الكيانات المكونة للسلطة بضعفها البنيوي المتراكم والواضح؛ هذا الضعف الذي أدى بطريقة ما إلى تفتيت الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة. فمع عدم وجود الوعي بالمهمة الأساسية التي يجب أن تقوم بها جميع مفاصل ومكونات النظام السياسي والمجتمع المدني ورأس المال الوطني، وهي تعزيز مفهوم الهوية الوطنية وتوطيد أركان الانتماء إليها، وترسيخ منظومة القيم الوطنية، أضحت سائدة ظاهرة العصبوية للأحزاب والأيديولوجيات الدينية، وحتى العصبيات العشائرية، والتي تجعل من هذه التكتلات جماعات لها هويتها الخاصة، كما أمسى من الصعب إعادة بلورة مفهوم متماسك للهوية الوطنية، فضلاً عن الانقسام السياسي وما جلبه من استنزاف وإهدار للطاقات السياسية.
إن صفقة القرن تستحوذ على قبول أكثرية الإسرائيليين، ولذا أصبح من الضروري التعامل بواقعية وموضوعية مع المعطيات التي شكلت أرضية ملائمة لإعلان هذه الصفقة، ومحاولة تفكيك هذه المعطيات لأن استمرارها سيتيح تطبيق هذه الصفقة رسمياً، الأمر الذي سيختزل حيز الوجود الفلسطيني إلى أقل قدر ممكن، ولا سيما فئات الشباب التي تواجه تحديات كبيرة في بقائها وصمودها على الأرض أصلاً، وأصبحت، نتيجة ذلك، شريحة يمكن وصفها بالمخدرة لا غير الفاعلة فحسب، لأنها فقدت طاقتها وقدرتها على العطاء في ظل الاستنزاف الذي تمر به باطّراد يوماً بعد يوم.
في استطلاع للرأي، نشره المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي في 10 شباط / فبراير الماضي، بشأن الموقف الفلسطيني من صفقة القرن، نجد أن 89,2% من العينة المبحوثة تعارض الصفقة بشدة وإلى حد ما، وأن 5,8% تؤيدها إلى حد ما، و0,8% أقل من 1% تؤيدها بشدة، بينما في استطلاع لمركز الأبحاث الفلسطيني قال 94% من المستطلعين أنهم ضد الصفقة. وإذا توقفنا عند المعارضة النسبية والتأييد النسبي، فإن 31% تقريباً من إجمالي العينة المبحوثة هم ما بين مترددين في رفض الصفقة، أو في قبولها، أو لا يولونها اهتماماً كافياً. والأمر المطمئن هو أن أقل من 1% فقط هم مع الصفقة بشكل حاسم، غير أن رفض السواد الأعظم للصفقة لم ينعكس في حراك جماهيري، وخصوصاً حراكاً شبابياً فاعلاً. النتيجة قد تبدو منطقية في ظل اكتفاء القيادة الفلسطينية بقول لا للصفقة، من دون طرح بديل، أو شرح آليات مواجهة فاعلة لها، لكن لا شك في أن الموقف الرسمي وتبعاته ساهما في جعل الحراك الجماهيري ضعيفاً.
على الرغم من العوامل العديدة الكابحة للحالة الجماهيرية الشبابية، فإن هذا المعين الفتي لا ينضب، فالتجربة الشبابية الفلسطينية وإن ساورها الركود في بعض الأحيان، إلّا إنها متجددة ومتوالدة دائماً، والدليل على ذلك الحراكات الشابة في مختلف المحطات الوطنية والسياسية. فقد أثبتت تلك الحراكات وجود جيل جديد يبادر إلى الحراك في مواجهة سياسات الاحتلال ومواجهة الأوضاع الداخلية الفلسطينية، كما تشكلت مجموعات شبابية رافضة للانقسام: حراك المعلمين، وحراك “بدنا_نعيش”، والحراك النسوي “طالعات”، ومسيرات العودة، فضلاً عن ظاهرة المقاومة الفردية. وهذه الحراكات تواجَه بقمع يومي من سلطات الاحتلال، وتتعرض لاحتواء في القطاع والضفة وأحياناً للقمع، وخصوصاً في القطاع.
بالنسبة إلى مفهوم علم اجتماع التغيير، فإن الكتلة البشرية الفاعلة والمطالِبة بالتغيير لمّا تكتمل في الوضع الفلسطيني بعد، وهي كتلة غالباً ما تأتي من خارج التنظيمات والقوى السياسية. وثمة حائلان يقفان دون الوصول إلى هذه النسبة، وهما: الاستعمار وممارساته المستمرة لاجتثاث أي فعل عبر اعتقال يومي في الضفة، وموقف المؤسسة السياسية الفلسطينية سواء في الضفة أو في القطاع، والتي لا تكتفي بإدارة الظهر للجماهير، بل تقوم بكبحها سواء بالقمع مثلما حدث مع مسيرات العودة في قطاع غزة، أو بالاحتواء كاحتواء القطاع الخاص والعشائر وحزب التحرير لمسيرات الضمان الاجتماعي في الضفة الغربية؛ والعامل المشترك في كبح الحراكات هو خشية السلطات من التغيير الذي سيمسّها بكل تأكيد.
إن بناء قاعدة اجتماعية مؤهلة للتغيير يلزمه وعي سياسي فكري يحدد التناسق بين المصالح الفردية والمصالح المشتركة، ويرسخ مفاهيم عقد وطني اجتماعي في تنظيم العلاقة بين الفرد والنظام، وبين الفرد والجماعة، وبين الفرد والفرد. الحاجة ماسة إلى صناعة وعي جديد، وثقافة وطنية، وسياسات بمستوى التحديات وقابلة للمأسسة بعيداً عن المؤسسة السياسية البيروقراطية الفاقدة لمقومات النجاح والتغيير. وهذه المسؤولية تقع افتراضياً على عاتق نخب المجتمع المدني ومؤسساته باعتبارها قوة ثالثة رديفة للنظام السياسي، غير أن المشكلة تكمن في أنها لم تضطلع بأدوار في هذا الاتجاه، الأمر الذي جعل عملية التحرر الوطني خاضعة لمبادرات شبابية فردية، وضمن مجموعات يغلب عليها الطابع العفوي.