اجتياح مواقع التواصل الاجتماعي .. كيف يخترق الاحتلال وعينا؟

محمد جودة | مؤسسة الدراسات الفلسطينية
شكّل الانتشار السريع لوسائل التواصل الاجتماعي عاملاً عابراً للحدود فيما يتعلّق بآليات الاتصال والتواصل. وبناءً على ذلك، نظر كيان الاحتلال إلى مواقع التواصل باعتبارها فرصةً لفتح فضاءات ومسالك جديدة للوصول إلى العرب والفلسطينيين، فانتهج عدداً من المداخل والخطابات العاطفية والإنسانية المُضلِّلة والمُوجّهة بدقةٍ وكثافة إلى تنفيذ مخططاته في كسب التأييد لاحتلاله فلسطين، وتغيير الصورة النمطية تجاهه كعدو من خلال تظاهره بالإنسانية والتقدُّم. فقد عَمَدَ الاحتلال إلى إنشاء مجموعة من الصفحات على مواقع التواصل كان أبرزها “إسرائيل تتكلم العربية”، و”أفخاي أدرعي”، و”المنسق” وغيرها. كما لعبت صفحة “إسرائيل في الخليج” دوراً كبيراً في مخاطبة المواطنين الخليجيين وتمرير روايتها إليهم قبيل موجة التطبيع التي جرت مؤخراً.
اللغة والعادات العربية كأدواتٍ ناجعة
أيقن الاحتلال أنّ تحقيق الهدف من استراتيجيته الطامحة إلى بث وتمرير أفكاره ووجهات نظره إلى المجتمعات العربية لن تنجح إلاّ باستخدامه اللغة الأم لهذه المجتمعات المستهدَفة عند مخاطبتها لكي يجعل الأمر يسيراً على المتلقّي من دون أن يتكلّف الأخير عناء الترجمة والفهم. فاللغة من أهم أجزاء التكوين الثقافي للمجتمعات الإنسانية، إضافة إلى أنّها من أقوى المؤثرات المستخدمة للوصول إلى الآخر وإقناعه بالانفتاح تجاهه؛ فالتطبيع الثقافي يبقى العامل الحاسم على المدى البعيد لأن الصراع يترسخ في وعي الشعوب وثقافتها وذاكرتها الجمعية ووجدانها القومي، فيصعب هز القناعات وتدمير مقومات الذاكرة الوطنية واختراق الثوابت التاريخية والدينية والحضارية من دون إقامة جسور للتواصل والتطبيع الثقافي.
وبناءً على ما سبق، نجد أن العدد الكبير من الصفحات الصهيونية الناطقة باللغة العربية والموجودة على مواقع التواصل الاجتماعي ليس محض صدفة، فعلى موقع “فيسبوك” وحده هنالك أكثر من 40 صفحة ناطقة باللغة العربية موجّهة إلى الجمهورين الفلسطيني والعربي، إذ تعتمد الطواقم المختصّة العاملة على هذه الصفحات أسلوباً وشكلاً مدروساً ومنظّماً في مخاطبة الجمهور العربي ومشاركته اهتماماته وتفصيلات حياته لكيّ وعيه واختراقه بشكلٍ ناعم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا يُفوّت الناطق باسم جيش الاحتلال والمتحدّث الجيّد للغة العربية أفخاي أدرعي مناسبة اجتماعية أو دينية، إسلامية كانت أم مسيحية، أو مناسبة تتعلّق بمُنجز عربي سواء على الصعيد الرياضي والثقافي والعلمي أو الفني إلاّ ويتناولها بالمعايدات والتبريكات، ونشر المواعظ والآيات القرآنية المُجتزأة من سياقها بما يتناسب مع ما يتحدّث عنه وبما يخدم تحقيق أهدافه، إضافةً إلى حرصه على مشاركة متابعيه بعض العادات الاجتماعية والثقافية والأكلات المشهورة والمتداولة في الأقطار العربية، وغيرها الكثير من الممارسات التي تحاول أن تُصوّر الكيان الاحتلالي باعتباره جزءاً من المنطقة ونسيجها الطبيعي.
أنسنة الاحتلال وصولاً إلى قبوله
يريد الاحتلال أن يتظاهر بالإنسانية في مختلف المواقع والأحداث، ومنها من خلال المحتوى الذي تقدّمه صفحاته الرسمية المعروفة مثل صفحة “إسرائيل بالعربية” على منصة تويتر و”إسرائيل تتكلم العربية” على منصة فيس بوك؛ في محاولة منه لجذب تعاطف أكبر قدر الممكن من الجمهور العربي. كما يستخدم الاحتلال الصفحات الوهمية للوصول إلى أهدافه، فيقوم من خلال أحد استراتيجياته بتنفيذ عمليات تستهدف التأثير في الوعي عبر تقمّص هويات زائفة وغير حقيقية. وتحاول الصفحات سالفة الذكر ترويج الفكرة القائلة بأنّها تسعى لإيجاد حياة هانئة للفلسطينيين، وأن حربها ليست ضدهم بل ضد “المخربين” منهم السّاعين لتخريب حياتهم واستقرارهم؛ وذلك بهدف تسميم الأجواء وإحداث شروخٍ وتشوُّهات في ثقة المواطن العربي بعدالة القضية الفلسطينية، وكذلك بين الفلسطيني ومقاومته من خلال وضع اللائمة عليها. أضف إلى ذلك، قيام هذه الصفحات بنشر صورٍ لحالاتٍ إنسانية تضطر إلى تلقي العلاج داخل الأراضي المحتلة من سكان قطاع غزة، أو لتسهيلاتٍ الدخول والخروج من المدن والقرى بالضفة الغربية وغيرها من الممارسات؛ لكي تظهر هذه الصفحات دولة الاحتلال بصورة الدولة الملتزمة بالقيم الإنسانية التي تدفعها إلى درجة تقديمها المساعدة حتى للذين يفترض أنهم أعداؤها وخصومها، لا أنهم الواقعون تحت احتلالها واضطهادها واستيطانها.
وهذه المواد قد تؤدي بطريقة أو بأُخرى إلى ضرب المناعة النفسية للمتابع الفلسطيني والعربي، كما قد تشكّل عاملاً مؤثراً في نفوس البعض بالتدريج وعلى الأمد الطويل، نتيجة عدم احتكاكهم ومعاناتهم جرّاء تصرّفات الاحتلال وجرائمه اليومية والمتعددة على أرض الواقع، فيتبادر بعد ذلك إلى أذهانهم -وبصورة تسلسلية ومدروسة- أنّ تخيُّلهم لصورة “إسرائيل” في السابق كان محض جهل وتلفيق وتوجيه من القوى المُعادية لها.
كما لا تفوّت صفحات الاحتلال فرصة تسويق نفسها للمجتمعات العربية من الزاوية العلمية والمعرفية، ففي ظل توق الشعوب العربية إلى إحداث نقلة علمية تنهض بمجتمعاتها من بوتقة التخلُّف عن الأمم الأُخرى والاعتماد على الآخرين، يقوم الاحتلال بنشر منجزاته العلمية والتكنولوجية والادعاء بأنّها لخدمة العالم والإنسانية جمعاء في محاولة منه للتغطية على الجرائم التي يرتكبها من خلال استخدامه التكنولوجيا وتسخيرها للفتك بالشعب الفلسطيني والتنكيل به، إضافةً إلى تخصيصها بعض المنشورات التي تحتفي بالشركات والمؤسسات “الإسرائيلية” ومساهماتها في المجالات العلمية والإنسانية، والاحتفاء والتعريف بالعلماء “الإسرائيليين” وبمجهوداتهم في تطوير العلوم بادعاء أنها تخدم جميع الشعوب من دون تمييز.
وزيادةً على ذلك، يسعى الاحتلال من خلال صفحاته لتسويق فكرة مفادها أنه المُتناول والحاضن لقضايا الضحيّة، وتظهر له بالشكل الذي يجعله يتخيّل أنها تتعاطف معه وتتبنى قضاياه ومآسيه، وأنه لا همّ لها أو غاية إلاّ أن يعيش بحالةٍ من الاستقرار والراحة. وهذه الآلية الناعمة لا يمكن وصفها بأقل من فيلم سينمائي يتم بناؤه وتنفيذه بإتقانٍ وحرفية عالية للوصول أخيراً إلى حالة من تزييف وقَلْب الحقائق والبديهيات بحيث يصبح الحق باطلاً والباطل حق. أي بمعنى آخر، أن تصبح الرواية الفلسطينية وما تتضمنه من حقوق مجرّد أوهام مثيرة للضحك ومنافية للواقع، في حين تصبح رواية الاحتلال هي التجسيد للإنسانية والحرية، وأنّها المبنية على الحق الذي انتزعه أصحابه من جديد. فالضباط القائمون على هذه الصفحات يتجنّبون الخوض أو الحديث عن أساس الصراع وحقيقته وأسبابه، وعن الأحقية التاريخية والقانونية للأرض المحتلة، وإنما يركّزون على تناول الموضوعات التي تدعو إلى التعايش وعدم الالتفات إلى الماضي وانتفاء الجدوى من العداء مع كيان الاحتلال. أي بطريقة أو بأُخرى يقولون بفرض سياسة الأمر الواقع، وتناسي أو نسيان الجرائم التاريخية التي ارتكبوها بحق شعوب المنطقة.
الترويج للمصير والهدف المشترك
دأبت الصفحات التابعة للاحتلال على مواقع التواصل الاجتماعي على الحديث والبحث عن المصالح والقضايا المشتركة التي تجمع شعوب المنطقة، وعن التعاليم المشتركة بين الديانة الإسلامية واليهودية، سواء من خلال نشر مقاطع مصوّرة لرجال دين عرب، مسلمين ومسيحيين يدعون فيها إلى السلام والتعايش وفق التعريف والرؤية الصهيونية، أو من خلال فعاليات يتم تنظيمها بين ناشطين من كيان الاحتلال وآخرين من الدول العربية ومنهم فلسطينيون. فالاحتلال يسعى وبشكلٍ مستمر ومدروس للوصول إلى حالة من الاقتراب والالتقاء في نقاط مشتركة مع العالم العربي مستخدماً مختلف الأساليب والأدوات المؤثرة في الجوانب النفسية والاجتماعية والدينية والسياسية للمُتلقّي العربي.
فعلى سبيل المثال، يَعمَد الاحتلال إلى الولوج إلى العقل العربي من بوابة الصراع الدائر والمُستعِر بشأن النفوذ بين بعض الدول العربية -وخصوصاً الخليجية منها- من جهة، وإيران وحلفائها من جهة أُخرى، من خلال سعيه لترسيخ الفكرة القائلة بوجود عامل مشترك بينه وبين العالم العربي فيما يتعلق بالعداء مع إيران والرغبة في تحجيم دورها. وهنا، يسعى الاحتلال لتوظيف واستغلال هذه المعركة على مواقع التواصل من خلال القيام بنشر تغريدات ومنشورات تحمل في طيّاتها ما يؤكد أن الهدف العربي والصهيوني واحد ومشترك تجاه التهديد والخطر الحقيقي للمنطقة بأسرها، وذلك لجعل المتابع العربي يصل إلى حالة ومرحلة يعتقد فيها أن مواجهة إيران أصبحت هي الأولوية الأهم والأبرز للعرب، وما يترتّب على ذلك من ضرورة لحشد الطاقات والجهود لمواجهة العدو الجديد بشكلٍ مشترك، مع استبعاد خطر الكيان الصهيوني باعتبار أنه أصبح صديقاً وحليفاً في المعركة الإقليمية.
وكعادته، لا يتورّع الاحتلال عن سياسته المعتادة بخلط الأمور واللعب على التناقضات من خلال الدعوات المتكرّرة التي تطلقها صفحاته الرسمية أو صفحات وهمية تابعة له والداعية إلى إنشاء تحالف واسع وعريض مع الدول العربية لمواجهة “الإرهاب” كما ينادي قادة الاحتلال في خطاباتهم. وهذا المصطلح (الإرهاب) فضفاض ويحمل أوجهاً متعددة التفسير وفقاً لمنظور الاحتلال مقارنةً بالمناظير الأُخرى، إذ إنه يخلط الأمور بتفسير معناه ويقصد به وبشكل أساسي المقاومة الفلسطينية وكل النشاطات الرافضة للاحتلال؛ وذلك بهدف التأثير المباشر في المتلقّي العربي وزعزعة الصورة العادلة للمقاومة الفلسطينية في ذهنه عن طريق تشويه صورة النضال الفلسطيني ووصف المقاومة بـ “الإرهاب” الذي يهدد السلام في المنطقة، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى فرض واقع جديد ومختلف يصبح معه تغيير الرأي العام العربي تجاه كيان الاحتلال أمراً سهلاً ويسيراً.
الاستثمار في ضعف الوعي العربي
يستغل الاحتلال ضعف الوعي في تعامل نسبة ليست بالقليلة من المستخدمين العرب والفلسطينيين مع مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها أداة حديثة الانتشار بينهم عن طريق استخدامه مختلف الأساليب والأدوات المؤثرة في الجوانب النفسية والاجتماعية والدينية والسياسية للمُتلقّين، إذ تتعمّد صفحاته نشر ما يثير اهتمامهم وحفيظتهم بهدف جذبهم إلى التفاعل مع ما يطرحه سواء أكان التفاعل سلبيّاً أم إيجابياً. فالضباط القائمون على هذه الصفحات لا يأبهون بالشتائم والإهانات التي يتم توجيهها، بل يرتكزون على قاعدة التكرار والنفس الطويل للوصول إلى هدفهم وهنا يكمن الخطر؛ إذ إن عامة المستخدمين ليسوا على دراية ومعرفة كافية بأساليب العدو في بثّ روايته المسمومة. فاستراتيجيا الاحتلال تعتمد على عدة أمور في مخاطبة المجتمعات العربية، فهناك الخطاب المرتبط باستفزاز الجمهور، وهناك الخطاب الموجّه إلى العقل اللاواعي كالمخاطبة بأسلوبٍ ديني، وهذا ما نلاحظه في خطابات الناطق الإعلامي باسم الاحتلال أفخاي أدرعي. فهم يحاولون إيجاد مبررات دينية ليخاطبوا بها الجمهور العربي، وأحياناً يستخدمون عنصر الفكاهة والسخرية في تعليقاتهم، إذ إن هذه الأساليب هي الأكثر نجاحاً في التأثير في مشاعر جمهور مواقع التواصل الاجتماعي العرب.
وعادةً ما تلقى نشاطات الاحتلال على مواقع التواصل سخرية قطاع كبير من المتفاعلين العرب، إلاّ إن ضباط الاحتلال لا يأبهون بذلك ويتوقّعون هذه الردود مسبقاً، فهدفهم هو الوصول إلى حالة يستطيعون بموجبها مُداعبة مشاعر وعواطف المجموع المُستهدف حتى لو نجحوا في اختراق وعي نسبة قليلة ومحدودة من المتفاعلين للقبول بهم؛ فالمنظومة التي يعمل عليها الاحتلال تعتبر كل اختراق -مهما يكن بسيطاً- نجاحاً كبيراً. يؤكّد ذلك المسؤول عن الدبلوماسية الرقمية بالعربية في خارجية الاحتلال يوناتان غونين الذي يرى أن إشارة بعض مستخدمي وسائل التواصل إلى بلاده على أنها “إسرائيل” بدلاً من “الكيان الصهيوني” يُعتبر إنجازاً إيجابياً ومهماً في تشكيل الرأي العام العربي، كما يرى أن الأمر لا يتعلق بعدد الإعجابات وإعادة التغريد فقط، بل يتعلق أكثر بإشراك الجمهور الافتراضي بطريقة تجعل الدبلوماسية أكثر نجاحاً مما تبدو عليه في أرض الواقع.
ويتعمّد الضباط المشرفون على هذه الصفحات عدم حذف التعليقات التي تهاجم الاحتلال، بل تُسخّر جهوداً كبيرة للرد على المعلّقين الذين يتعاطون مع الأمر بحمية وسذاجة بطريقة تسبب الحرج لهم، وتجعلهم لا يقوون على الرد على ما يطرحه ضباط الاحتلال المؤهلين للتعامل مع هذه الردود العفويّة والمُندفعة، والالتفات إليها. فالأفراد والطواقم العاملة على صفحات العدو تمتلك القدر الكافي من الخبرة لاستغلال الثغرات ومكامن الضعف الكامنة لدى الجمهور المُخاطَب والتعامل معها بدهاءٍ كبير.
كما يتفنّن الاحتلال في اللعب على أوتار الطائفية والمذهبية المُستشرية في المنطقة العربية، فيقوم مثلاً بإظهار توافقه مع أحد الطوائف والمذاهب في القضية محل النقاش ضد الأُخرى؛ وذلك بهدف تأليب وتهييج مشاعر وعواطف الجمهور المتابِع متعدّد الانتماءات ضد بعضه بعضاً، ولإدخاله في حلقة مُفرغة للدوران فيها من دون طائل أو نتيجة.