أخرى

غرامات المحاكم العسكرية تجعل الفلسطينيين شعباً مسجوناً على حسابه

احمد ملحم | مؤسسة الدراسات الفلسطينية 

حولت سلطات الاحتلال سجونها إلى محطة موت بطيئة للأسرى، نظراً إلى ما يتعرضون له من انتهاكات جسيمة تطال قرابة 4400 أسير فلسطيني، بينهم الأطفال والنساء وكبار السن والمرضى، تستنزف أعمارهم وصحتهم، كما أنها أصبحت تستنزف مقدرات عائلاتهم المالية.
وباتت السجون بمثابة مشروع اقتصادي ناجح لسلطات الاحتلال، تجني إسرائيل من ورائها ملايين الشواكل سنوياً، من دون أن يكلفها السجن في المقابل أية مبالغ مالية أو تكاليف تُذكر، في تجربة مشابهة للاحتلال نفسه، إذ أصبحت دولة الاحتلال غير مسؤولة عن الأراضي المحتلة بأي التزامات تفرضها المعاهدات والقوانين الدولية بصفتها قوة احتلال.
وزادت سلطات الاحتلال من خلال المحاكم العسكرية وتيرة فرض الغرامات المالية على الأسرى، وتحديداً الأطفال، والتي باتت تستنزف أهاليهم، وخصوصاً في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها الأراضي الفلسطينية، وملاحقة سلطات الاحتلال المستمرة لرواتب الأسرى في السجون والأسرى المحرَّرين وعائلات الشهداء.
وكشف تقرير صادر عن مركز فلسطين لدراسات الأسرى، أن محاكم الاحتلال استنزفت أهالي الأسرى خلال سنة 2020، بفرض الغرامات المالية على الأطفال في محكمة عوفر، والتي بلغت 350 ألف شيكل (102 ألف دولار) خلال العام الماضي.
وتفرض محاكم الاحتلال العسكرية على أهالي الأطفال الأسرى دفع غرامة مالية،  قبل أن تُصدِر أحكاماً بالسجن الفعلي بحق الأطفال، في سياسة عقابية تعسفية ضد الأهالي.
وقالت مسؤولة الإعلام في نادي الأسير أماني سراحنة إن عائلات الأسرى، وتحديداً الأطفال، تضطر إلى دفع غرامات مالية من أجل عدم إبقاء أطفالها في السجون فترة طويلة، لافتةً إلى أن الغرامات تشكل أعباء مادية على العائلات، وخصوصاً أن الكثير من العائلات مجبَر على الدفع لتخليص السجناء من الاعتقال، كما أن سلطات الاحتلال تعتقل بعض الأطفال، تحديداً في القدس وبصورة دورية، بهدف الضغط المادي على السكان المقدسيين، مشيرةً إلى أن بعض الأطفال اعتُقل عشرات المرات.
كما تُفرَض الغرامات على الأسرى من ذوي الأحكام الخفيفة التي تتراوح ما بين 6 أشهر وقد تصل إلى 7 سنوات، إذ تبلغ قيمة الغرامة في المتوسط ما بين 2000 و 6000 شيكل، وفي بعض الأحيان تزيد عن 10 آلاف شيكل، وهي تذهب إلى حسابات خزينة دولة الاحتلال، وتخصَّص نسبة منها تزيد عن نصفها لجيش الاحتلال. وقال المحامي مفيد الحاج إن سلطات الاحتلال أصبحت تشترط على أهالي الأسرى دفع الغرامة المالية قبل صدور الحكم على الأسير من أجل ضمان دفع الكفالة وعدم تعويض قيمتها بأشهر إضافية من الاعتقال.
ولفت الحاج إلى أن سلطات الاحتلال حين تعقد صفقات مع محامي الأسرى فإنها تشترط دفع الغرامة المالية عبر البريد، ثم إصدار الحكم، أو تقديمه إلى المحكمة للمصادقة عليه، مشيراً إلى أن سلطات الاحتلال تعاقب أهالي الأسرى بصفتهم المسؤولين اجتماعياً عن أولادهم، وهذا يخالف كل القوانين. وأضاف الحاج أن هذه الغرامات أرهقت عائلات الأسرى، وخصوصاً أن الكثير منها لا يملك المال الكافي لدفعها، فيلجأ إمّا إلى القروض أو الديون في ظل توقف السلطة عن دفعها.
السلطة الفلسطينية توقفت، رسمياً وبالكامل، عن دفع الغرامات المالية عن الأسرى منذ سنة 2014، ووفقاً لرئيس شؤون الأسرى والمحرَّرين قدري أبو بكر، يعود السبب إلى فرض سلطات الاحتلال غرامات مالية باهظة تصل إلى مئات آلاف الشواكل على الأسرى، متوقعةً أن تدفعها السلطة. وقال أبو بكر إن المحاكم العسكرية ومصلحة السجون تفرضان نوعين من الغرامات المالية؛ الأول من خلال المحاكم عندما يتم اعتقال الأسير والحكم عليه بالسجن، ويضاف إلى الحكم غرامة مالية كبيرة خاصة على الأسرى الأطفال، والثاني ما تفرضه إدارة مصلحة السجون داخل السجن ضد أي تصرف أو فعل يقوم به الأسير وتعتبره إدارة السجن تجاوزاً، على سبيل المثال مخالفة القرارات داخل السجون، فمَن يرفض الامتثال للعدد تُفرَض عليه غرامة مالية، وفي حال كُسر أي شيء من محتويات السجن كـ”المغسلة” مثلاً وكان ثمنها 500 شيكل، تُفرض غرامة بقيمة خمسة آلاف شيكل على الأسير. ويضيف أبو بكر أنه في حال امتناع الأهل من دفع الغرامات تقتطعها سلطات الاحتلال من أموال الأسير المخصصة للكانتينا، بحيث تمنع الأسير من شراء حاجاته الأساسية، وتصادر الأموال التي أودعتها عائلته في حسابه لهذا الغرض. ويُذكر أن الأسير يضطر إلى شراء أغراضه الأساسية من الكانتينا في السجن بأسعار مضاعفة، مثل مواد التنظيف والطعام وغيرها.
ولفت أبو بكر إلى أنه في ظل ملاحقة إسرائيل لرواتب الأسرى والمحرَّرين يُسمَح بدخول 3500 شيكل لكل أسير، علماً بأن رواتب أكثر من 60 % من الأسرى داخل السجون أقل من 3 آلاف شيكل.
وتُعَد الغرامات المالية أداة عقابية تفرضها محاكم الاحتلال العسكرية، وهو ما يطرح تساؤلات عن الأسباب التي تمنع الفلسطينيين من مقاطعة تلك المحاكم في ظل الدعوات إلى تبنّي موقف واستراتيجيا وطنية إزاء ذلك. من جانبها تقول سراحنة إن هناك مطالبات منذ عدة سنوات لاتخاذ موقف ملزِم وطنياً حيال عدم دفع الغرامات المالية المفروضة على الأسرى وعدم التعامل مع المحاكم العسكرية الإسرائيلية، وخصوصاً أن سياسة الاعتقال بصورة عامة أصبحت تجارة مربحة مادياً للاحتلال، ولا علاقة لها بالمزاعم الأمنية، ويظهر في تفصيلاتها الاستغلال المادي للأسرى.
وأضافت سراحنة أن الكثير من العائلات التي تُفرَض عليها غرامات لا تستطيع الدفع، وفي أحيان كثيرة تتوجه إلى المؤسسات من أجل مساعدتها، لكن من دون جدوى. وأن الأسرى يمضون فترات إضافية في السجن في بعض الأحيان بدلاً من دفع الغرامات لعدم قدرة الأهالي على الدفع.
وأطلقت مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان بالتعاون مع نادي الأسير ومؤسسة الحق في 2 آذار/مارس الماضي حملة “الشعب الفلسطيني ضد المحاكم العسكرية” من أمام محكمة عوفر العسكرية، والتي تطالب بإيجاد استراتيجيات لمواجهة هذه المحاكم ومقاطعتها.
وقال رئيس نادي الأسير قدورة فارس أنه لا يمكن مواجهة الغرامات المالية المفروضة على الأسرى والمحاكم بطريقة مجتزأة، بل من المفترض اتخاذ استراتيجيا وطنية يتم التعامل من خلالها مع المحاكم العسكرية الإسرائيلية ككل. وأضاف: “نرى أن المحاكم العسكرية الإسرائيلية يجب أن تقاطَع مقاطعة شاملة، بما يترتب على ذلك من عدم توفير أي تمثيل قانوني للأسرى أو أي اعتراف بقرارات المحكمة، وبالتالي عدم دفع أي غرامات مالية مترتبة على قرارات تلك المحاكم”.
واستطرد فارس “إذا لم نقُم بهذه الخطوة ستبقى محاكم الاحتلال العسكرية تتعامل مع الأسرى وأهاليهم كالبقرة الحلوب لمصلحة جيش الاحتلال الإسرائيلي، وخصوصاً أن هذه الأموال تُدفع لخزينة الجيش”، لافتاً إلى أن الاستمرار في تعامل الأسرى الفلسطينيين مع محاكم الاحتلال العسكرية يعطي كذلك انطباعاً أن إسرائيل حريصة على إجراء محاكمات عادلة للفلسطينيين، وهو ما يضفي إليها قدراً من الشرعية، مشدداً على أن المقاطعة ضرورة ملحة.
وعن العوائق التي تحول دون صوغ استراتيجيا وطنية متفق عليها لمقاطعة المحاكم العسكرية، قال فارس “لقد أطلقنا قبل أيام حملة وطنية داخلية، ودعينا إليها كل الفصائل والأحزاب لإعلان موقفها من دعوتنا إلى مقاطعة المحاكم العسكرية، لكننا لم نحصل على أي ردة فعل على الرغم من أهمية الموضوع”.
وتابع فارس “لم يعلّق أي فصيل على دعوتنا، لكن هذا التجاهل يعني أن قضية الأسرى ليست مطروحة على طاولة إجراءات وسياسات الفصائل”، لافتاً إلى أنه في حال اتخاذ الفصائل أي موقف تجاه هذا الملف فإنه سيتحول إلى موقف وطني وتستجيب له السلطة، رداً على تعامل هيئة شؤون الأسرى مع المحاكم العسكرية.
من جانبه قال محامي مؤسسة الضمير محمود حسان إن متوسط ما تفرضه محاكم الاحتلال العسكرية من غرامات على الفلسطينيين يصل سنوياً إلى 15 مليون شيكل، وأن هذا المبلغ يمول المحاكم العسكرية، أي أن الفلسطينيين يدفعون تكاليف المحاكم ورواتب القضاة والنيابة العسكرية، وهذا يجعلنا شعباً مسجوناً على حسابه من دون تكليف الاحتلال بأي شيء.
ولفت حسان إلى أن محاكم الاحتلال العسكرية بدأت في الآونة الأخيرة بفرض غرامات كتعويضات شخصية للمستوطنين المصابين جرّاء إلقاء الحجارة على سبيل المثال، وهي محاولة لتجريم الفلسطينيين، لافتاً إلى أن هذه القرارات لا ترهق العائلات الفلسطينية مادياً فحسب، بل تشجع المستوطنين، إذ باتت تُعَد مصدر تكسُّب لهم.
ولفت حسان إلى أن القانون الدولي يسمح لدولة الاحتلال بإقامة محاكم عسكرية لإدارة العمل بعد الاحتلال، لكن تلك المحاكم مقترنة بفترة زمنية محددة، وهذا الأمر لا ينطبق على الاحتلال الإسرائيلي كونه احتلالاً طويل الأمد وليس مقترناً بفترة زمنية.
ولفت حسان إلى أن مهمة المحاكم العسكرية الاعتناء بتسيير الحياة العامة على أن يبقى عمل المحاكم المحلية مستمراً، لكن إسرائيل عطلت المحاكم المحلية ولا تأخذ برأيها ولا بإجراءاتها، وبالتالي باتت تستخدم المحاكم العسكرية للبت في كل القضايا، ومنها على سبيل المثال مخالفات السير التي يرتكبها السائق الفلسطيني، وكذلك النظر في قضايا الأراضي، بما يعزز مساعي الاحتلال للاستيلاء عليها وتحويلها إلى مستوطنات.
ولفت حسان إلى أن الحل لمواجهة هذه المحاكم هو مقاطعتها بالكامل، مضيفاً “يجب أن تكون المقاطعة وطنية سياسية شاملة، بموقف موحد من جميع الأحزاب والفصائل الفلسطينية. وعلى كل أسير عدم الاعتراف بشرعية تلك المحاكم لكي تصبح المقاطعة ذات جدوى وتأثير”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى