مقالات

معركة “سيف القدس” في الميزان الاستراتيجي

أحمد عيسى | جريدة القدس

تكشف معركة “سيف القدس” عن تحول استراتيجي في علاقات القوة بين إسرائيل، من جهة، وغزة ومعها محور المقاومة في المنطقة، من جهة أُخرى، الأمر الذي سيجعل لنتائجها تداعيات استراتيجية محلياً وإقليمياً ودولياً.
صحيح أن تغول إسرائيل على الشعب الفلسطيني، لا سيما في مدينة القدس وعلى بواباتها وضواحيها وأقصاها وقيامتها، علاوة على منعها الفلسطينيين من إجراء انتخاباتهم العامة في عاصمة دولتهم الموعودة، ما دفع الفلسطينيين إلى تعليق إجراء هذه الانتخابات، هو المحرك الرئيس لما يجري من اشتباكات ومواجهات شعبية، سواء على طول وعرض المدن والقرى داخل الخط الأخضر والضفة الغربية، الأمر الذي رغم أهميته لن تتطرق إليه هذه المقالة، أم لمعركة “سيف القدس”، فإن الغاية غير المعلنة للأخيرة تدور حول من يحدد قواعد اللعبة في علاقات القوة بين أطراف المعركة؟ الأمر الذي ستلقي هذه المقالة مزيداً من الضوء عليه.
نعم، من سيحدد قواعد اللعبة في المنطقة؟ هل هي إسرائيل والمحور الذي أنشأته ومعها الولايات المتحدة الأمريكية في عهد إدارة الرئيس ترامب السابقة؟ أم محور المقاومة، بمن في ذلك الفلسطينيون حتى وإن لم يكملوا مسيرة توحدهم وإنهاء انقسامهم؟ وهذا بالضبط ما يميز هذه المعركة عما سبقها من معارك، سواء من حيث توقيت اندلاعها والسياق الاستراتيجي الذي يحيط بها، أم من حيث إحداثياتها ككثافة النيران وآليات القتال وقواعد الاشتباك ونوع السلاح وكذلك أهداف كل طرف من أطرافها، سواء المعلنة منها، أم غير المعلنة، بما في ذلك مدتها الزمنية والخطاب الإعلامي المرافق لها، وفوق ذلك كله كيف سيبدو الفلسطينيون والإسرائيليون، ومعهم القوى الفاعلة في الإقليم، في اليوم التالي لوقف القتال؟

فمن حيث لحظة اندلاع المعركة والسياق الاستراتيجي الذي يحكمها، تجدر الإشارة إلى أن المعركة اندلعت في لحظة زمنية يسعى فيها الفلسطينيون والإسرائيليون، كلٌّ على حدة، إلى إيجاد نظام سياسي مستقر ويحظى بتأييد الغالبية العظمى من الشعب، وعلى الرغم من عدم نجاح الطرفين في خلق النظام الذي تبتغيه الغالبية العظمى من الشعبين، فإن المعركة قد عبّدت الطريق نحو هذا النظام، فإسرائيل تتجه نحو نظام يميني قومي ديني خالص، والفلسطينيون باتوا أكثر إيماناً بأنهم بحاجة إلى درع وسيف، الأمر الذي لا يمكن أن يكون إلا بخلق نظام سياسي يقوم على الشراكة والتكامل بين الدبلوماسية ومقومات القوة الدفاعية.
أما من حيث السياق الاستراتيجي الذي يحيط بالمعركة، فينبغي هنا عدم إغفال أو تجاهل أن إقليم الشرق الأوسط يشهد صراعاً محتدماً بين محاور عدة، يبرز منها محوران اثنان في الوقت الراهن: المحور الإسرائيلي وبعض العرب، من جهة، والمحور الإيراني الذي أصبحت غزة جزءاً منه أو امتداداً له، من جهةٍ أُخرى.
ولا يمكن للمحور الأول فرض هيمنته ورؤيته على الإقليم دون إجبار باقي المحاور، لا سيما المحور الإيراني المعروف بمحور المقاومة، على التسليم بالحد الأقصى لقوة المحور الأول، أي للقوة الإسرائيلية، إذ يتطلب تحقيق ذلك تجريد إيران من أهم أدوات الردع التي تملكها، الأمر الذي يعني أن مبادرة إسرائيل لحرب ضد حزب الله في لبنان وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة هي مسالة وقت فقط.

وفي هذا الشأن، تسابق إسرائيل الزمن بمساعدة واشنطن لإرساء أساسات هذا المحور، الأمر الذي يجد تجلياته في معاهدة أبرهام التي طبّعت فيها إسرائيل علاقاتها مع دول عربية تتميز بموضعها الاستراتيجي في المنطقة، ثم إنشاء منتدى غاز المتوسط الذي يضم أطرافاً دولية وعربية، وأخيراً في قرار الرئيس الأمريكي السابق ترامب قبل مغادرته البيت الأبيض في كانون الثاني الماضي ضم إسرائيل القيادة المركزية الأمريكية.
في سياق استعدادات الجيش الإسرائيلي لتحقيق هذه الغاية، تمّ الإعلان عن يوم الثلاثاء الموافق 11/ 5/ 2021، بدايةً للمناورة العسكرية (مركفاه النار)، هذه المناورة التي سيطبق فيها الجيش بكل وحداته تدريباً عملياً في محاكاةٍ لحرب حقيقية تستمر لمدة شهر على كل الجبهات، في رسالة بالنار من الجيش الإسرائيلي لكل أطراف محور المقاومة.
وتُظهر مبادرة فصائل المقاومة في غزة لمعركة “سيف القدس” رداً على تغول إسرائيل وقطعان مستوطنيها في المدينة المقدسة أن الجيش الإسرائيلي أصبح حقيقةً عاجزاً، ولم يعد قادراً على توفير الحماية والأمن لمواطني إسرائيل، الأمر الذي يضع كثيراً من الشك على قدرته في إجبار محور المقاومة على التسليم بالحد الأقصى لقوة إسرائيل التي نجحت في رسم صورة مهولة لها في وعي مواطنيها ومواطني المنطقة، وربما العالم بأسره، إذ بات واضحاً للمراقب العادي من خلال متابعته الحية لأيام المعركة أن إسرائيل ليست بالقوة التي رسختها في ذهن المراقبين وكشفها حزب الله في لبنان، الأمر الذي يفسر لجوء الجيش الإسرائيلي إلى تطبيق عقيدة الضاحية في غزة من خلال إحداث دمار ضخم يصعب احتماله في محاولةٍ لاستعادة الردع المفقود.
وبشأن هذا الأخير (الردع)، فقد بات واضحاً للمراقب المتخصص أن معركة “سيف القدس” لم تجرح قوة الردع الإسرائيلي وحسب، بل عمّقت كثيراً من جروح باقي الركائز التي يقوم عليها مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، وتضم إلى جانب الردع: الإنذار المبكر والحسم وأمن الجبهة الداخلية.
فمن حيث الردع، تُثبث مبادرة حماس لمعركة “سيف القدس” أنها لم تكن مردوعة، كما قال رئيس الأركان كوخافي في كلمته أمام المؤتمر السنوي الذي نظمه معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي (INSS) بتاريخ 24/ 1/ 2021 تحت عنوان “الحاجة لإعادة تعريف الأمن القومي في ظل نظام دولي جديد”، إذ قال إن أيّاً من أعداء إسرائيل على الجبهات الست التي نحارب فيها في وقت واحد (سوريا، لبنان، غزة، الضفة الغربية، إيران، +) لا يفكر في المبادرة لمهاجمة إسرائيل، وذلك بدليل مبادرتها للمعركة على الرغم من علاقات القوة غير المتكافئة بين الطرفين، أما من حيث الإنذار المبكر فقد فضحت المعركة فشل كل أجهزة الاستخبارات والتقدير في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بدليل أن أيّاً منها لم يُشعل الضوء الأحمر أمام قيادة الدولة السياسية، محذراً من مبادرة حماس لعملية عسكرية كبيرة إذا استمرت إسرائيل في تغولها على القدس والأماكن المقدسة، ومن حيث الحسم فيبدو أن قدرة إسرائيل على حسم المعارك لصالحها قد ولى مرةً وللأبد، لا سيما على الجبهة الفلسطينية، أما من حيث الجبهة الداخلية فالصورة تنطق بما فيها، على الرغم من الفارق الكبير في القوة التدميرية للطرفين.
ماذا يقول ما تقدم؟

يوضح ما تقدم أن إسرائيل تعيش مأزقاً غير قابلٍ للحل، فمن جهة لا يمكنها حسم الصراع لمصلحتها والاستجابة لحاجة مواطنيها بالشعور بالأمن والطمأنينة من خلال تحويل إسرائيل إلى دولة طبيعية في المنطقة أُسوةً بباقي الدول التي أنشأها شعوبها على أرضهم الخاصة، لا سيما بعد مرور أكثر من سبعة عقود على قيامها على حساب الفلسطينيين أصحاب البلاد الأصلانيين، الذين على الرغم من ضعفهم لم يرفعوا الراية البيضاء ويصرون على نيل حقهم بالحرية والاستقلال.

ومن جهة أخرى، لا تزال المؤسسة الأمنية، وفي القلب منها الجيش بالشراكة مع المؤسسة الإعلامية التي تتوحد في حالة الحرب مع الجيش، تتحايل على الواقع وتواصل خداع شعبها ومواطني الدولة، إذ بدل الاعتراف بفشلها في تحقيق حاجة مواطنيها بالحماية والأمن وإفساح المجال لأصحاب العقول فيها لمناقشة جدوى مشروعها الاستعماري برمته، والتوصل إلى نوعٍ من الشراكة مع أصحاب البلاد الأصلانيين، تواصل ارتكاب المجازر والمذابح وكل أشكال التطهير العرقي ضد أصحاب البلاد الأصلانيين، على قاعدة أن استخدام مزيد من القوة يدفعهم للاستسلام ورفع الرايات البيضاء، الأمر الذي فضحته معركة “سيف القدس”، لا سيما أنّ التسليم بتغول إسرائيل وقطعان المستوطنين في القدس وعلى طول البلاد وعرضها أكثر كلفةً مما سببته المعركة من قتل ودمار.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى