مقالاتمكتبة الديوان

جمال الدين الأفغاني: سيرة سياسية

محمد الأحمري | أواصر

تأليف: نيكي كيدي
ترجمة: مجاب الإمام ومعين الإمام
الناشر: منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة
سنة النشر: 2021
عدد الصفحات: 575

الكتاب الذي بين أيدينا ملحمة من أهم ملاحم التعريف الفكري وسير الرجال النابغين في الأمم. ولعله فيما اطلعت عليه من أهم ما كتب إلى الآن عن جمال الدين الأفغاني، من حيث استقصاء أخباره والتعريف بأفكاره ومواقفه، والإلمام بمن كان حوله من أشخاص وما صنع من أعمال وما جرى له من أحداث. ورغم كبر حجم الكتاب، فقد قصّر عن وضع الشخص في زمانه وأحداث عصره، وللمؤلفة العذر في ذلك، إذ إن التوسع رغم أنه مفيد فإنه سيضاعف حجمه وهو كبير.
كشف الغموض
قامت المؤلفة بجهد كبير عبر سنين من البحث في الأرشيفات الإنجليزية والفارسية والفرنسية، لتحاول أن تخرج لنا هذا الإنسان من ظلمات الغموض والأسرار الغريبة التي أحاطت به، إذ ليس الغموض فقط في قضية نسبه وهل هو أفغاني أم فارسي، فهذا أمر قد سبقها ولحقها كثيرون أكدوا فارسيته، ولا كشفت فقط مذهبه الشيعي الذي كان حريصًا على إخفائه إلى آخر حياته، وإن ظهرت عبارات هنا وهناك تدل على مذهبه، ولكنها كشفت بعض التفاصيل عن دوره وأثره العام وعن التنظيم السري «العروة الوثقى» الذي أنشأه مع رفاقه في مصر، وأداره لعقدين أو ثلاثة من حياته الصاخبة جدًّا واتسع أثره لآفاق بعيدة.
أما برنامجه للإصلاح فقد نثرته في الكتاب نثرًا بحيث تجد صعوبة في لم شمله، لكنه يتبدى في صفحات الكتاب من مكان لآخر. وقد بقي الأفغاني رغم تأكيدها واحتفاليتها بكشف أسراره ممعنًا في الغموض، رغم أنها حرصت على تأكيد باطنيته. وقد حاولت أحيانًا أن تمسك بالأمر غير أنه أفلت منها كما أفلت من سلطات كثيرة في زمانه، وأفلت من مؤرخين ومثقفين كثيرين حاولوا قبلها وبعدها، وقد نجحت مرات أكثر من غيرها، وأخفقت مرات أخرى.
نهجها تقديمها له
بذلت المؤلفة جهدًا كبيرًا في محاولة رميه بكل نقيصة، ولكنه خرج من يدها رغم حرصها على تقزيمه عملاقًا، لا يمسك به حاكم، باستثناء السلطان عبد الحميد، ولا مثقف ولا حكومة ولا رصد ولا جواسيس، ولا تصنفه في مدارس فكرية من أي مذهب، ولا مذاهب فقهية من أي مدرسة، ولا عقائدية من أي طائفة، أراد ذلك ونجح إلى حد كبير أن يضلل الجميع، وأن يكسب فوائدهم، وأن يتخلص من أغلب عوائقهم نحو هدف واحد وهو الإحياء السياسي وتحرير العالم الإسلامي من الاستعمار البريطاني خاصة. الأفغاني هو من شئت ومن لم تشأ، وهو من عرفت ومن أنكرت، من تخالفه ومن توافقه، وهو من عشقه تلاميذه حد العبادة، ومن كرهه الناس حد الشيطنة، لفظته كل حكومة، ورعب منه كل حاكم، واستقبله مشاهير زمانه. حاور كبار مفكريهم، وغالط محققيهم، وأربك مواقفهم. يحمل عود ثقاب التحرير يشعله في كل مدينة عبر بها وفي كل مجتمع مر به، وفي كل أذن سمعه، وفي عين كل قارئ قرأ له. ينشئ الجمعيات ويؤسس الصحف ويجند الإعلاميين من كل دين وثقافة لقضيته.
فإن كان قد تخلى علنًا عن التشيع ولو ظاهرًا، خوفًا من أن يحشر في زمرة الأقليات، وأحب أن يعرف بأنه سني حنفي، ومارس الفقه والعبادة في البلدان التي عاش فيها كمصر وتركيا كشيخ حنفي. وقد اجتهد في إخفاء بداياته قدر طاقته، فهو مرة رومي، وأخرى أفغاني، وثالثة إسطنبولي، ومن قبل ومن بعد ادعى النسب الحسيني، ولكن تصرفه هذا كان لمصلحة مشروعه. أما باطنيته وقد أنفقت المؤلفة لإثباتها وقتًا ومساحة كبيرة متناثرة، فلهذا الجانب عدة وجوه لتفسيره قبولًا وردًّا، ولا نمتدحه على تصرفاته تلك ولا نقدحه بسبب الأجواء الاستعمارية المحيطة، والظلم الشامل، والجهل العام، وحرصه أن يكون مقبولًا ومؤثرًا حيثما حل. فهل كان له مبرر في هذا أم لا؟ لا شك أن المدرسة السلفية السنية تقدحه جملة وتفصيلًا، وأن المدارس الأخرى ما بين منكر ومتشكك ومؤيد لما فعل.
هل هواه روسي أم إنجليزي، تركي أم فارسي، هندي أم أفغاني، عربي أم تركي، فرنسي أم ألماني ماسوني، أم فقيه؟ هل كان يريد الإيقاع بين روسيا وبريطانيا ليخرج المسلمون من هذا الهشيم منتصرين؟ هل هو مع الوزراء ضد الحكام؟ أم مع الحكام ضد الوزراء والشعوب؟ ثم تقف عند تلاميذه فتجدهم من الشيعة والسنة العرب والعجم واليهود والنصارى، فكيف جمع بين كل هؤلاء في صعيد تعظيمه وتقديمه واتباعه؟
هذا مما جعل الكتاب متعة ثقافية وكأنك تقرأ رواية مليئة بالأحداث والشخصيات يقودها كلها بطل أسطوري واحد. ثم إنها صورة عن نضال مفكر حركي موهوب يواجه لحظة الصدمة بالاحتلال المسيحي للعالم الإسلامي كما وصفها مالك بن نبي. إنها لحظة الصفعة الغربية المدمرة على العالم الإسلامي، أحست بها العقول واضطربت لها القلوب والأجساد، وفي لحظة الصدمة لا تعرف أين تتجه ولا تعرف من سببها، ولا كيف تخرج منها، والأفغاني أنموذج لمحاولة الفهم والإيقاظ وتعليل ماذا حدث، وكيف المخرج. ومن غير المناسب أن نستبق هذا النص لنقول لك ماذا فيه، ولكن نضع هنا مفاتيح الكتاب.
وقد قدمنا للقارئ قبل هذا الكتاب من سلسلة التعريف بالمدرسة الإصلاحية كتاب الإسلام ضد الغرب: شكيب أرسلان والدعوة إلى القومية الإسلامية لوليم كليفلاند، عام 2017، وفيه جولة مهمة جدًّا للتعريف بالمدرسة عبر رمز من أهم رموزها، واليوم نقدم أهم عمل كتب عن شيخ المدرسة في هذا الكتاب، وفي طريقنا نحو نشر أهم ما جادت به أو كتب عن هذه المدرسة مما راق لكثيرين أو أزعج آخرين. وقد كانت لي جولات مع هذه المدرسة أمسكت قديمًا بخط لاذع النقد لها، متأثرًا بنقادها، ثم أصبحت متصالحًا معها، ثم أخيرًا عارضًا لأعمالها بحسناتها وكاشفًا بعض ما يمكن أن يكون من أخطائها. ولأنها أقرب التجارب وأحقها بالتعريف والدراسة بعد مرور نحو قرن من الزمان على سطوعها. وقد أصبحت هذه المدرسة ملكًا فكريًّا شائعًا بحسناتها وسيئاتها، ولنرى الجدوى الكبيرة من عرض ما كان من قول يسرنا، أو من موقف ورأي نعافه، وللقارئ علينا أن نحاول أن نكشف وننصف كل ما يمكننا في هذا السياق.
أما المؤلفة نيكي كيدي فهي مؤرخة أمريكية يسارية، كتبت كثيرًا في كتب وأوراق وأبحاث منفصلة أو مشتركة عن الفكر والتاريخ الفارسيين. وقد تتخيل بحكم مذهبها أنها خرجت من ربقة الثقافة الاستعمارية المحقرة للآخرين، لكنها في الواقع لم تخرج من ثقافة العصر الاستعماري الذي نشأت في ظلاله وأدركت زمن زواله الشكلي، إنما حافظت وبجرأة على هويتها وخيالات التعالي الاستشراقي، ويبقى عملها هذا من مكاسب الاستشراق.
يكفينا في هذا التقديم أن نضع بين يديك هذا السفر الذي لا يستغني عنه دارس لفكر المدرسة الإصلاحية، آملين أن نعود في سياق آخر لنقاش هذه المدرسة أو الحركة بعد أن نعيد تقديم كثير من جهودها قدر طاقتنا، أو ندل على نهجها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى