ماذا حلّ بالعقد الإجتماعي الفلسطيني؟!

إبراهيم شعبان | القدس
شغلت شرعية الحاكم والهيئة الحاكمة ومشروعيته وأسبابها، أفكار الفلاسفة والمفكرين ردحا طويلا من الزمن. فبعضهم استمدها من القوة بكل أشكالها، وآخرون أرجعوها إلى الثروة وسطوتها، ومنهم ردّها إلى الدهاء والحيلة، وأحالها مبتدئوهم إلى العائلة والعشيرة والقبيلة والمدينة على اختلاف عدد سكانها. لكن الإتجاه الطاغي توجه إلى ما يسمى نظرية العقد الإجتماعي التي نادى بها ولونها بلونه كل من جون هوبس ربيب آل ستيوارت، وجون لوك المفكر الإنجليزي المتنور، وجان جاك روسو المفكر الفرنسي الذي غدا نبي الثرورة الأمريكية على اختلاف كتبهم وفهمهم وبواعثهم وفلسفتهم وأفكارهم. وتابعهم كثير من المفكرين وتبنوا هذا النهج الفكري إلى يومنا هذا.
استقر علماء السياسة والإجتماع والقانون في العصور المتاخرة على أن افضل تكييف لإسناد السلطة الحاكمة بشكل مشروع، بغض النظر عن اسمها ومكان تواجدها وزمان قيامها، يتمثل في قيام عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم أو المحكومين، يتم بموجبه تنازل المحكوم عن بعض حقوقه الأساسية ليعيدها له الحاكم منظمة مرتبة في إطار سلطة حاكمة. وإذا ما أخلّ الحاكم بهذه المزايا فللمحكوم ( الشعب ) الحق بنقض العقد الإجتماعي مع الحاكم.
وقد أيدت وجهة النظر هذه آراء إسلامية سديدة وعديدة حيث نوهت أن الخلافة الإسلامية ما هي إلا شكل من اشكال العقد الإجتماعي بين الحاكم والمحكوم وقبولها من أهل الحل والعقد في بيعتهم للخليفة. وكان من اشد المنظرين لها المرحوم العلامة المصري عبد الرزاق السنهوري.
ولا جدل أن ما ينطبق على السلط في العالم أجمع من ضرورة قيام عقد اجتماعي بين الحاكم والشعب ( المحكومين )، كان يجب أن ينطبق بالضرورة ايضا على سلطتنا الفلسطينية العتيدة، التي لم تقم بإرادة شعبية فلسطينية ولا عبر عقد اجتماعي بين الشعب الفلسطيني والحاكم الفلسطيني، بل قامت بموجب اتفاقيات أوسلو بعد عام 1994. وهي اتفاقيات دولية بمعناها البسيط الأولي.
ورغم اتفاقيات أوسلو وتبعاتها وآثارها، فإنني أعتقد بقيام عقد اجتماعي بين الثورة الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية وبما أفرزته من سلطة فلسطينية عتيدة وبين الشعب الفلسطيني. وكان من مظاهر هذا العقد الإجتماعي إجراء انتخابات فلسطينية متعددة رغم قيودها بشأن القدس، واستمرار القضاء في القيام بعمله رغم مظاهر العبث فيه، وقيام البلديات المعينة أو المنتخبة في خدمة سكان مدنها وبلداتها ومجالسها وتأجيل الإنتخابات ردحا من الزمن بسبب أو بدون سبب، وقيام النفابات المهنية وانتخاب مجالسها انتخابا حرا مباشرا، وقيام مجلس وزراء يرسم سياسة محلية تاركا السياسة الخارجية للرئيس، ولعل قيام وسن قانون اساس كان حجر الرحى بما تضمنه من حقوق وحريات على طريق العقد الإجتماعي الفلسطيني.
وبمرور الوقت بدأ العقد الإجتماعي الفلسطيني بالترهل ويفقد المراكز الحيوية فيه، أو على الأقل بدأت الصورة تبهت في المجتمع الفلسطيني. وأخذ العقد الإجتماعي الفلسطيني يذوي ويبتعد ويضعف دون ضخ دماء جديدة لمعاودة العقد في الثبات ومقاومة الأزمات ورص الصفوف لحماية حقوق أهل هذا العقد.
كانت الخطوة الأولى المؤثرة على العقد الإجتماعي الفلسطيني غياب قطاع غزة عن هذا العقد بانفضالها عنه، وفشل وسائل العودة له. وليس مهما الخوض في الأسباب والدواعي لهذا الخروج لكنه كان حاسما في التاثير على العقد الإجتماعي الفلسطيني.
أما الخطوة الثانية في جعل العقد الإجتماعي الفلسطيني يهتز فقد كانت في عدم إجراء انتخابات فلسطينية رئاسية ونيابية وبلدية ونقابية بعد أن استنفذ الرئيس والمجلس التشريعي مدة ولايتهمما الزمانية ، وكذلك المجالس البلدية والنقابات. ومهما كانت الأسباب والدواعي والأعذار وهي أمور يمكن خلقها وحجبها، وإبطالها وتبريرها، فلا جدل أن العقد الإجتماعي الفلسطيني أصيب بالجمود وغدا كالمومياء التي علاها الصدأ والغبار. ولا يخفى على أحد أن الإنتخاب هو أهم وسيلة ديموقراطية لإفراز الحاكم والبرلمان. وبدونهما يتراجع العقد الإجتماعي الفلسطيني فهما يمثلا الشعب لفترة زمنية محدودة فقط، وتتجدد هذا الشرعية بإجراء انتخابات جديدة دورية.
الخطوة الثالثة التي تضرر منها العقد الإجتماعي الفلسطيني كان قطاع العدالة والحقوق والحريات العامة ( حقوق الإنسان ). فرغم رفع شعارات حقوق الإنسان والإنضمام لمواثيق حقوق الإنسان الدولية ورغم إقرار وسن القانون الأساس في عام 2003، إلا أن ذلك بقي حبرا على ورق ولم يدفع بالعقد الإجتماعي الفلسطيني قدما بل تراجع إلى الوراء. فقد عجز قطاع العدالة بقيوده السلطوية عن مواكبة الإتجاهات والمفاهيم الحديثة للحقوق والحريات العامة. وبقي اسير الأفكار البالية التي تقوم على الفردية وانعدام الشفافية والرقابة وحق الحصول على المعلومة. وابتعد عن ممارسة صلاحياته التي منحها إياها القانون وسمح للغير باستلابها منه وبقي يستجدي الصلاحيات، ولم يدرك أنها تنتزع انتزاعا، بل لم يدرك أن فلاسفة العقد الإجتماعي الأوائل منعوا الحاكم من حجب هذه الحريات عن المحكومين اي عن الشعب وأجازوا لهم مقومة الحاكم إن وصل لهذا الأمر.
انشغل القائمون على العقد الإجتماعي الفلسطيني بفهوم الأمن أكثر من مفهوم الحرية ورغد الفرد، وكان يفترض العكس. فشئون الصحة والتربية والتعليم والقدس، تأخذ المرتبة الثانية بل المجهولة في مواجهة الأمن الفلسطيني تمويلا وأولوية مما اضر بالعقد الإجتماعي بحيث تراجع التضامن الإجتماعي ونمت بذور الفرقة والإنقسام والشرذمة. ولعل قيام قوانين خاصة بالأمن الفلسطيني يمس بالعقد الإجتماعي ويضر به.
بعد ترهل العقد الإجتماعي الفلسطيني، يجب اتخاذ خطوات عديدة وجادة لإحيائه عبر ضخ دماء جديدة في هذا العقد. وعلى راس هذه الخطوات عودة التلاحم الفلسطيني بعودة القطاع وإجراء الإنتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية والنقابية، يرافقها أو يتلوها إصلاح قطاع العدالة إصلاحا جذريا، والعمل بموجب مواثيق وحقوق الإنسان والمعاهدات التي تم الإنضمام إليها، وتبني مفهوم الحرية للمواطن الفلسطيني قبل مفهوم الأمن السلطوي على كل الصعد بما فيه إلغاء المحافظات ومنصب المحافظ، وما لا يدرك كله لا يترك جلّه.