القضية الفلسطينيةمقالات

ماذا تريد بريطانيا من وصم “حماس” بالإرهاب؟

طارق حمود متراس

في 19 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، قدّمت وزيرةُ الداخليّة البريطانيّة، بريتي باتيل، طلباً للبرلمان البريطانيّ للمصادقةِ على تعديل لائحة “المنظمات الإرهابيّة” بحيث تشمل حركة “حماس”، إذ تكتفي هذه اللائحة، حتى اللحظة، باعتبار الجناح العسكريّ للحركة “كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام” فقط حركةً “إرهابيّة”، وذلك بعد أن أُضيفت إليها عام 2001.

ويتوقع أن يناقشَ البرلمانُ البريطانيّ هذا الطلب للمصادقة عليه الجمعة 26 نوفمبر/تشرين الثاني، وفي حال المصادقة، فإنّ التصنيفَ الجديد سيدخل حيَّز التنفيذ على الفور. يسعى هذا المقال لقراءة هذه الخطوة وتحليلها في سياقاتٍ عدة.

لماذا الآن؟

يأتي هذا القرار بعد 11 شهراً على دخول اتفاق “بريكست” (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبيّ) حيز التنفيذ، وذلك بداية عام 2021. وهو حدثٌ عميق التأثير على المستوى المحليّ البريطانيّ، ويترك أثرَه على المستوى الدوليّ بعد أن فقدت العربةُ الأوروبيّة أحد أحصنتها الثلاثة (بريطانيا، ألمانيا، فرنسا). وبعد هذا الحدث، بدأت بريطانيا تشهدُ تحولاتٍ جوهريّة في موقفها السياسيّ والجيوسياسيّ، إذ تُقارب لندن سلعتَها السياسيّة والاقتصاديّة بعد “بريكست” بشكلٍ أكثر التصاقاً مع الولايات المتحدة الأميركية، والتي جاء الإعلانُ البريطانيّ الجديد من عاصمتها واشنطن.

من زاوية أخرى، فإنَّ حدث “بريكست” قادَهُ ودعَمَه تيارٌ يمينيٌّ ويمينيٌّ متطرف، أنتجت تبعاته تشكيلاً سياسيّاً يؤمن بالشراكة الأطلنطيّة الأميركيّة، ويتجاوز الهويّة الأوروبيّة للجزيرة البريطانيّة. ساهمَ ذلك في توسيع دوائر الشعبويّة التي يقودها تيار يمينيّ متنامٍ كان مسؤولاً عن أكثر حوادث معاداة السامية في بريطانيا وأوروبا بحسب تقرير لمنظمة (CST)، وهي منظمةٌ بريطانيّة يهوديّة عريقة تعمل بشكلٍ لصيق مع أجسامٍ حكوميّة مثل الشرطة.

برّرت وزيرةُ الداخليّة التصنيفَ الجديد لـ”حماس” في إطار ما أسمته “جهود مكافحة معاداة السامية، وضمان أمن المجتمع المحليّ البريطانيّ”. وبالتالي فإنّ التيار الحكوميّ الحالي الذي ينتمي للخطاب اليمينيّ الذي نشأت عنه الكثير من حوادث معاداة السامية، يحاول علاج مشكلة العداء للسامية عبر الطريقة التقليديّة الغربيّة: “عندما تكون مسؤولاً عن مشكلةٍ وتعجزُ عن حلِّها، انقلها إلى مكان آخر”. وهو مفهومٌ تأسست عليه معاناةُ الفلسطينيّين وقضيتهم منذ أكثر من 100 عام، حين قامَ الاستعمار الغربيّ بعلاج جرائم أوروبا ضدّ اليهود بتحميل شعبٍ آخر المسؤولية.

من جانبٍ آخر، فإنّه لا حضور لحركة “حماس” في بريطانيا، وهي ليست مذكورةً في التصنيف الرسميّ البريطانيّ للتهديد الإرهابيّ على الأمن الوطنيّ (المحليّ) في البلاد، وهو ما يُسقِط التبرير الآخر للوزيرة التي قالت إنَّ هذا التصنيف “من شأنِه حمايةَ اليهود في بريطانيا”.

هذا في الجانب السياسيّ البريطانيّ، أما في السياق الإسرائيليّ، فهو قرارٌ يأتي في إطار أزمة المحضن الدافئ للاحتلال، أي أزمةُ شرعيّة الاحتلال لدى الرأي العام لأوروبا عموماً، وبريطانيا على وجه الخصوص. في الحرب الأخيرة على غزّة، خرجَ عشرات الآلاف في العاصمة لندن تنديداً بآلة القتل الإسرائيلية، وتضامناً مع أهل القدس والشيخ جراح. أضف إلى ذلك أنَّ كبار المشاهير في العالم أعلنوا عن تأييدهم وتضامنهم مع الفلسطينيّين خلال تلك الفترة، وهو ما شكّل سوابق مقلقة للاحتلال الذي اعتاد الاعتمادَ على ترهيب اللوبيات الداعمة له في الغرب ضدّ أي خطٍّ مؤثرٍ أو داعمٍ للفلسطينيّين.

تأثيرات القرار المُحتملة

ليس من المتوقع أن يؤثر القرارُ كثيراً على حركة “حماس” التي لا تملك حضوراً في بريطانيا، حتى في ظلَّ التصنيف الذي لا يشمل جناحيها السياسيّ أو الاجتماعيّ. لكن بكلِّ تأكيد سيؤثر القرارُ على قدرة بريطانيا في الانخراط في مساراتٍ سياسيّةٍ مع الحركة، مثل اتفاقات التهدئة أو مفاوضات تبادل الأسرى، بالإضافة للانخراط في مساراتٍ مدنيّة إنسانيّة في قطاع غزّة الذي تحكمه “حماس” فعليّاً.

وهنا لا بدّ من التذكير أنَّ فلسفة الانخراطِ البريطانيّ في الملف الفلسطينيّ تعتمد فلسفةً مغايرة لهذا القرار. تستند تلك  الفلسفة إلى أنَّ الحركات الاجتماعيّة الجماهيريّة ينبغي التعامل معها في إطار التفريق بين ممارستها “العنيفة”، وارتباطاتها الاجتماعيّة والسياسيّة بالجمهور. وبحسب أغلب الدارسين للحركة، ينطبقُ هذا التعريف -الحركات الاجتماعيّة الجماهيريّة- على حركة “حماس”، ومنهم البروفسور جيرون غوننغ Jeroen Gunning، الذي كان رئيس قسم العلاقات الدوليّة في جامعة كنجز كولج King’s College، وعمل لصالح استشارات حكوميّة في هذا السياق، وهو حالياً مُحرّر مجلة الدراسة النقديّة للإرهاب، ونائب مدير معهد دراسة الراديكالية والعنف السياسيّ المعاصر في جامعة ويلز.

غوننغ حذّر في مقالٍ له بعنوان “Hamas: Talk to Them” في 2008 أنَّ سياسة عزل “حماس” هي سياسة غير بناءة وخطيرة وغير قابلة للحياة. وهو يقول في مكانٍ آخر أنَّ تصنيف الجناح السياسيّ لـ”حماس” على قوائم الإرهاب مخالفٌ للفهم السياسيّ الأوروبيّ الذي يحتكم أكثر لعلماء الدراسات الاجتماعيّة. لكنّ أوروبا، بزعمه، (واليوم بريطانيا ربما) تخالفُ المفهوم تحت ضغطٍ سياسيّ أميركيّ وإسرائيلي. وفي هذا السياق، سبق أن انخرطت بريطانيا بشكلٍ فاعلٍ في تنسيق أول هدنةٍ بين “حماس” والاحتلال الإسرائيليّ في 2002-2003 عن طريق ضابط الاستخبارات البريطاني إليستر كروك Alastair Crooke، والذي دافعَ عن سياسة الانخراط مع “حماس” أكثرَ من مرة. وفي مقالٍ له في صحيفة ذي غارديان عام 2008 تحت عنوان “من الضروري التحدث إلى “الإرهابيين”” قال إنّ “المُسلمين لا يكرهون قيمنا، ولكن يكرهون سياستنا”.

ما سبق قد يعني أنَّ سياسة بريطانيا تجاه الملف الفلسطينيّ قد تشهد تغيراً، فبالإضافة لكونها سياسة حمائيّة للاحتلال وانتهاكاته، فقد تصبح سياسةً عدائيةً للفلسطينيّين الذين تُمثلُ “حماس” شرائحَ واسعةً منهم، حسب آخر انتخابات ديموقراطيّة. على هذه الأرضية الجديدة، والتحوّل الواضح في الفهم السياسيّ البريطانيّ، فإنّ العمل التضامنيّ لصالح فلسطين يبدو هو المستهدف الأول. إذ سيكون أسهل على لوبيات الاحتلال شيطنة المنظمات والأفراد العاملين لأجل فلسطين باتهامِهم أنّهم “إرهابيّون”. وسيتوفر أساسٌ قانونيّ لمحاكمة من يقوم بدعم قطاع غزّة سواء ماديّاً أو معنويّاً تحت ادعاء أنَّ هذا الدعم قد يصلُ “حماس”، أو أنّه دعمٌ لـ”حماس” نفسها.

وفي الوقت الذي نتحدثُ فيه عن تحوّلٍ يلتصق بسياسات الولايات المتحدة، فلا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ مجموعةً من الفلسطينيّين يقبعونَ في السجون الأميركية اليوم تحت مظلة القانون -الأميركي – ذاته الذي يُجرّم “حماس” ويُصنفها بالكامل كمنظمةٍ إرهابيّة فيما يُعرف بـ”قضية مؤسسة الأرض المقدسة”.1

هل سيمرّ؟

بناءً على الآراء التي ذكرناها لبعض أشهر الخبراء الأكاديميّين والأمنيّين البريطانيّين سابقاً، يبدو أنَّ القرار يأتي بضغطٍ إسرائيليٍّ يستثمرُ في الهيكل السياسيّ القائم اليوم، وأنّ أجهزة المؤسسة الرسميّة البريطانيّة لديها وجهات نظر مختلفة في هذا السياق. فبريتي باتيل لديها سجلٌ حافلٌ بالفضائح، كان آخرها التحقيق في تنمّرها على موظفي الوزارة، وقبلها عام 2017 حين اضطرت للاستقالة (طردها) من حكومة تيريزا ماي بعد أن كشفت قناة بي بي سي عن لقاءاتٍ سريّة عقدتها في تل أبيب ولندن ونيويورك مع مسؤولين إسرائيليين، وذلك خلال توليها وزارة التنمية الدوليّة. تمَّت تلك اللقاءات دون أن تُبلغ باتيل عنها حكومتها ولا الخارجيّة البريطانيّة التي تتبع لها مباشرةً، وهو ما طرح أسئلةً من قبيل: ما هو المضمون الذي تكتمت عنه وزيرةٌ في حكومةٍ من أشدِّ حلفاء الاحتلال؟

وقبل طردها من الحكومة في حينه، ساهمت باتيل من خلال وزارتها بتقليص حوالي ثلث المساعدات البريطانيّة المقدمة للسلطة الفلسطينيّة، وبدلاً من ذلك خصَّصت مساعداتٍ ماليّة لمستشفياتٍ ميدانيّة يُديرها جيشُ الاحتلال الإسرائيلي في الجولان السوريّ المحتل. مثل هذا السجل للوزيرة لا يقودُ فقط إلى شعورٍ بحجم ولائها للاحتلال الإسرائيليّ، بل وبحجم عدائها للفلسطينيين جميعاً بغضِّ النظر عن فصائلهم وعمن يُمثِّلهم.

من المتوقع أن يمرّ هذا القرار سياسيّاً، ويصادقَ عليه البرلمان، وذلك بغضِّ النظر عن رأي بقية أجهزة الدولة فيه. خاصّةً أن المحافظين يُهيمنون عليه بأغلبية 81 مقعداً عن باقي الكتل البرلمانيّة مجتمعةً، وهي أغلبية لم تتحصل لهم منذ عام 1987. إضافةً إلى أنّ 80٪ من نواب المحافظين ينتمون لمجموعة “أصدقاء إسرائيل” في حزب المحافظين، وهناك أكثر من ثلث وزراء الحكومة البريطانيّة، بمن فيهم رئيس الوزراء، تلقوا دعماً ماليّاً من الحكومة الإسرائيليّة، أو لوبيات موالية لـ”إسرائيل”، وفقاً لـDeclassified UK. في المقابل، فإنَّ حزبَ العُمال الذي حصل على أقل نسبةٍ برلمانيّةٍ في تاريخه منذ 1935 يعاني من ضعف سياسيّ، واتهاماتٍ بمعاداة السامية خلال الفترة التي قادها جيرمي كوربون، وبالتالي من المتوقع أن يدعم نوابٌ من الحزب القرار.

يُذكر أنّ باتيل أشارت إلى أنَّ القرار جاء بعد رأيٍ استشاريٍّ لـ”مجموعة مراجعة التصنيف”2 Proscription Review Group التي تضم خبراءَ من الحكومة وشركاء عملياتيين و”مجتمع الاستخبارات”. والسؤال من هم الشركاء العملياتيون، وهل يمكن أن يكونوا غير بريطانيين؟ (إسرائيليين مثلاً؟). ولماذا لم تتم الإشارة لوجود جهاز الاستخبارات نفسه بدلاً من القول “مجتمع الاستخبارات” بالعموم؟ وفي ظل ذلك، لا يتَّضح حتى الآن وجود أي رأيٍ داعمٍ للتصنيف الجديد من المؤسسة البريطانيّة الأمنيّة والاستخباريّة خارج التشكيل السياسيّ الذي شرحنا خلفية وجوده في المشهد، والعقل السياسيّ الذي يقوده.

ختاماً، فإنَّ التصنيف الجديد الذي لا يُعتقد بأنه سيؤثر على “حماس” فعليّاً بسبب عدم وجود نشاطٍ لها في بريطانيا، وبسبب الاعتقاد أنَّ التصنيف يستهدف النشاط التضامنيّ مع الفلسطينيين في بريطانيا بشكل أساسي، فهو المتأثر الفعلي بهذا القرار، إلا أنّ ذلك قد يعني الكثير لحركة “حماس” من زاويةٍ أخرى. رُبما ستُعيد “حماس” التفكير في جدوى المرونة التي أبدَتْها مؤخراً، خاصّةً بعد إصدارها وثيقة السياسات في 2017، وقبولها فعليّاً لدولة فلسطينيّة في أراضي الـ1967.

وربما تُعيد التفكير أيضاً في جدوى القنوات الخلفيّة المفتوحة منذ سنوات مع المسؤولين الغربيّين. يُذكر أنّ تعريفَ “حماس” في قرار التصنيف السابق والجديد، يقول إنّها حركة “تهدف إلى إزالة الاحتلال الإسرائيلي (هكذا مكتوب بالحرف “الاحتلال”) وإقامة دولة إسلاميّة مكانه”، وهو ما يقوم الدليل على شقه الأول المتعلق بإزالة الاحتلال، فيما لا تقوم أبسط الدلائل على شقه الثاني إلا ما هو مذكور في ميثاق الحركة عام 1988، والذي تؤكد “حماس” نفسها، وأكثرُ الدراسات الموضوعيّة حولها، أنها تجاوزته ولم يعد يمثل مرحلة ما بعد الثمانينيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى