هل يصنع المؤرخون سياسة الدول ويؤثرون في سلوك رؤسائها؟

سليمان صالح الجزيرة
دراسة التاريخ تشكل الأساس لصنع سياسات رشيدة تستوعب دروس الهزائم والانتصارات، لذلك ظهر مجال علمي جديد يركز على تحليل ما يقرؤه الرؤساء، وكيف يستفيدون من دراسة التاريخ في صنع سياساتهم، ومدى علاقتهم بالمؤرخين.
وكان ظهور ذلك المجال العلمي من أهم التجليات لاتجاه جديد يربط بين العلوم المختلفة، ويزيل الحواجز بينها، ليبني جسورا تنتج معرفة جديدة يمكن أن تسهم في تطوير المجتمعات وبناء المستقبل.
بوش وقراءة التاريخ
يري جوناثان هونت أن المؤرخين صنّاع سياسة، وللبرهنة على ذلك درس الكتب التي قرأها جورج بوش، وأوضح أن أغلب تلك الكتب كانت تدور حول التاريخ وسير القادة والزعماء مثل الزعيم الصيني ماو والأميركي أبراهام لينكولن، وأن تلك الكتب التي قرأها أثرت في تصوره للأمن القومي الأميركي، وأنه كان يعتمد على التاريخ في مناقشاته مع مستشاريه، وأنه كان يرى أن التجارب الأميركية تشكل الأساس لتطوير رؤيته لحماية الأمن القومي، وأن دراسة هذه التجارب بعد الحرب العالمية الأولى صالحة لتشكيل الأساس للأمن القومي ومحاربة الإرهاب.
ولقد عقد جورج بوش اجتماعات مع مؤرخين أميركيين لمناقشة قضايا السياسة الخارجية، وكان حريصا على استشارة المؤرخين مثل ديفيد كينيدي وولفرد ماكلاي، وسار الرئيس أوباما على هذا النهج في استشارة المؤرخين، ودعوتهم للعشاء في البيت الأبيض.
التاريخ يصنع السياسة!
يرى جوناثان هونت أن التاريخ يضطلع بدور مهم في صنع السياسات الأميركية منذ عهد الآباء المؤسسين، جون آدمز وبنيامين فرانكلين وجيمس ماديسون وتوماس جيفرسون، الذين عدّوا أنفسهم مؤرخين، واستخدموا المبادئ والسوابق التاريخية في صياغة الدستور الأميركي.
وقد تميز جورج واشنطن بقراءة التاريخ، وكان يستند إليه في خطاباته، وفي صنع قراراته. وبعد الحرب العالمية الثانية استندت الإدارة الأميركية إلى التاريخ في بناء سياستها الخارجية وعلاقاتها بالاتحاد السوفياتي، ويبرر هونت ذلك الاتجاه بأن التاريخ يشكل ذاكرتنا الجمعية، وهذه الذاكرة تسهم في زيادة القدرة على تخيل مسار الأحداث في المستقبل، لذلك تؤثر تلك الذاكرة الجمعية في صنع السياسات الأميركية الخارجية.
في معمل السياسة
في ضوء ذلك، يرى هونت أن هناك علاقة قوية بين التاريخ والسياسة العامة، مستندا في ذلك إلى مقولة مؤرخ الفلسفة الفرنسي إيتين جيلسون “إن التاريخ هو المعمل الوحيد الذي يمكن فيه أن نختبر نتائج الفكر”، ولذلك يستخدم المؤرخون هذا المعمل النظري لصنع السياسة الخارجية، والشؤون الدولية.
وتتزايد حاجة الدول إلى فتح المجال للحوار بين المؤرخين خارج أسوار الجامعات لبناء أسس العلاقات الدولية، وصنع سياسة الدولة الخارجية، ويمكن أن تقوم وسائل الإعلام بدور مهم في إدارة هذا الحوار.
خارج الأسوار .. لماذا؟
لكن لماذا تحتاج الدول إلى إدارة هذا الحوار خارج أسوار الجامعات؟ كان هناك نوع من التوتر والاختلاف بين الموضوعية التي يلتزم بها المؤرخون في أبحاثهم من ناحية، والعمل العام وصنع السياسة من ناحية أخرى، ويمكن أن ينطلق المؤرخون خارج الأسوار لاستخلاص الدروس، ووضع الأساس لصنع السياسات من دون التقيد بالإجراءات المنهجية الصارمة، كما أن ذلك يشكل نظرة جديدة للتاريخ؛ فهو ليس مجرد أحداث مضت، لكنه فاعل في بناء المجتمعات، وصنع المستقبل.
وعندما يخرج المؤرخون من الأسوار إلى الفضاء الإعلامي والمجال العام، فإنهم يمكن أن يتحولوا إلى مفكرين عامين يستخدمون دروس التاريخ في صنع السياسة.
كما أن الجمهور يمكن أن يفهم التاريخ فهما أفضل، ويتفاعل معه عندما يخرج به المؤرخون إلى شاشات التلفاز وصفحات الصحف والمناقشات العامة في المجال العام.
هناك كثير من الأبحاث ورسائل الماجستير والدكتوراه مكدسة في المكتبات الجامعية عن كثير من التجارب التاريخية، لم تستفد منها الدول في بناء المجتمعات وتحقيق التقدم، لأنها كانت تحتاج إلى وسائل إعلامية تقدمها للجمهور، فتزيد الوعي بالتجارب الإنسانية التاريخية، وتسهم في تطوير الكفاح لتحقيق أهداف بعيدة المدى.
كما أن التلفاز يمكن أن يقدم التاريخ بأساليب جذابة تحوّل التاريخ إلى مصدر قوة للدولة، وتوضح أن سياساتها الحالية امتداد لتجاربها التاريخية التي طوّرت خلالها مبادئ تلتزم بها، ويمكن أن يتعامل معها العالم في ضوئها.
خارج الدوريات العلمية
يرى هونت أن المجتمعات أصبحت تحتاج إلى نشر الأبحاث العلمية التي تقدم دراسة للتجارب التاريخية خارج الدوريات العلمية، من أجل إثارة انتباه الجمهور واهتمامه بالتاريخ، لذلك يجب أن يشارك المؤرخون في الخطاب العام، وأن يقدموا شروحا للتجارب التاريخية، ويديروا مناقشات في مسألة تقييم أحداث التاريخ، وتوضيح المفاهيم.
لقد أوضحت كثير من الأحداث ضرورة مشاركة المؤرخين في المناقشات العامة لقضايا المجتمع، فهذه المشاركة يمكن أن تسجل ثراء وعمقا لهذه القضايا.
ولذلك يصف هونت مجموعة من المؤرخين الأميركيين، مثل آرثر شلزنجر، بأنهم كانوا أسود الخطاب السياسي في الخمسينيات والستينيات، وشكلوا بيوت الخبرة ومراكز التفكير للرؤساء الأميركيين في مجال صنع السياسة الخارجية، وقد اهتمت وسائل الإعلام الأميركية بهؤلاء المؤرخين الذين جذب خطابهم الجمهور الأميركي، فقد أوضحوا خطورة الدكتاتورية والاستبداد من خلال دروس التاريخ، وأدى ذلك إلى فتح مجالات واسعة للعمل أمام خريجي أقسام التاريخ في الجامعات، واستعانت بهم كثير من المؤسسات الأميركية التي عملت على زيادة قوتها باستخدام البحث العلمي.
التاريخ والدبلوماسية
إذا كانت العلاقة قوية بين السياسة والتاريخ، فإنها يجب أن تتطور لتشكل أساسا للعمل الدبلوماسي، فدراسة التاريخ وفهمه يساعدان على زيادة الخيارات أمام صنّاع السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، فالتاريخ يشمل كثيرا من الحالات والتجارب التي تمتد من شنّ الحرب إلى صنع السلام والجلوس على موائد المفاوضات.
لكن التجارب التاريخية يمكن إساءة استخدامها في صنع السياسات عند توظيفها من دون فهم للظروف التي حدثت فيها، لذلك فإن الدبلوماسيين وصناع العلاقات الدولية يحتاجون إلى مستشارين من المؤرخين الذين يمكن أن يوضحوا لهم كيفية اختيار التجارب التاريخية المناسبة التي يمكن الاستناد إليها في بناء العلاقات مع دولة معينة، وفي الاختيار بين الحرب والسلام وإدارة المفاوضات.
إن المؤرخ الذي يفهم التجارب التاريخية ويستطيع تحليلها والاستفادة منها في الموقف الحالي هو الذي يستطيع أن يوضح لصناع السياسة الخارجية والدبلوماسية أهمية الحالة التاريخية، وكيفية الاستفادة منها وتوظيفها وعلاقتها بالواقع، فتوظيف التاريخ في صنع السياسة الخارجية علم تحتاج الدول إلى تطويره وإلى تأهيل كوادر فيه تكون قادرة على تحليل التجارب التاريخية وتفسيرها بعمق، واستخدامها في صنع القرارات الصحيحة التي تحقق مصالح الدولة في صنع القرار.
لذلك، يفتح هذا العلم مجالا جديدا لدراسة إمكانية استخدام التجارب التاريخية وتوظيفها في بناء سياسة الدولة الخارجية وعلاقاتها الدولية، وفي صنع القرارات التي تتناسب مع الموقف الحالي، وفي تحقيق الأهداف.
إصدار الأحكام الصحيحة
من دون دراسة التاريخ، وفهم تجاربه يفتقر صناع السياسة إلى القدرة على إصدار الحكم الصحيح، وتقييم الأحداث وردود أفعال الشعوب، لذلك يمكن أن تؤدي القرارات الأميركية بمساندة نظم الحكم الدكتاتورية التي أجهضت التجارب الديمقراطية وأحلام الشعوب العربية في التحرر والاستقلال -بعد ثورات الربيع العربي- إلى زيادة عداء الشعوب العربية لأميركا، وبناء صورة أميركا في أذهان الشعوب العربية على أساس أنها الدولة التي تستخدم قوتها الغاشمة ضد الشعوب، وتحرمها من حقوقها في الحرية والديمقراطية، وتساند النظم الدكتاتورية التي تحقق مصالحها.
ولو أن النظام الأميركي استشار المؤرخين لأوضحوا له خطورة عداء أميركا لشعوب تكافح من أجل حريتها واستقلالها، واختيار النظم التي تبني مستقبلها، والمبادئ التي تقرر على أساسها مصيرها.
يرى نيوستادت أن صنّاع السياسة يجب أن يتخيلوا الزمن على أنه متصل يمتد من الماضي إلى المستقبل بدلا من التركيز على الأهداف القصيرة المدى، وأن المؤرخين يمكن أن يساعدوهم على التفكير الإبداعي.
لذلك، فإن تطوير علوم جديدة تربط بين السياسة والدبلوماسية والعلاقات الدولية والتاريخ يمكن أن يسهم في زيادة قدرات الدول على بناء علاقات دولية في القرن الـ21 على أسس احترام إرادة الشعوب وحقوقها في الحرية والديمقراطية والاستقلال بدلا من استخدام القوة الغاشمة والسيطرة الاستعمارية، وتجويع الشعوب وتعطيشها وقهرها.. فالشعوب -كما يثبت التاريخ- تستطيع أن تبدع في كفاحها أشكالا جديدة للقوة كما يسعها أن تنتزع حقوقها وتهزم المستعمرين والطغاة.