“المطارد بزبطش يشبع”.. هكذا تحدّث أبو عاصف

عوني فارس متراس
لم يكن في ذهن الفتى عمر البرغوثي، ابن الرابعة عشرة، أنه بقراره التصدي لقوّات الاحتلال التي اقتربت من أطراف قريته كوبر في السابع من حزيران/ يونيو 1967 سيُدشِّن مشواراً من الكفاح استمر قرابة أربعةٍ وخمسين عاماً، وأنّه سيراكم تجاربه الثوريّة، وسيحجز بدمه وعَرقه وأنفاسه من ريفٍ وسط فلسطين مكاناً في قائمة الثوّار الطلائعيين.
وُلِدَ عمر البرغوثي (أبو عاصف) في قرية كوبر، الواقعة في محافظة رام الله والبيرة، في الثاني والعشرين من أيّار/ مايو عام 1953، وهو بِكْرُ والديه عمر وفرحة البرغوثي، والأخ الأكبر لنائل البرغوثي؛ أقدم أسير فلسطيني في سجون الاحتلال، وله اختٌ اسمها حنان.
كانت كوبر في صيف عام 1967 قرية صغيرةً ووادعةً، يسكنها 950 فلسطينياً،1 موزعين في حارات قائمة على عدد من التلال،2 ويعيش أغلبهم على الزراعة. وقد اعتاد عمر الالتحاق بوالده للعمل في الأرض يومياً بعد انتهاء الدوام المدرسي وأحياناً قبله، وظل هذا حاله حتى وقعت حرب 1967، مؤذِنةَ بتحوّلاتٍ ستترك فيه أثراً وتُغيّر من حياته.
حجُ السلاح
ارتبطت بدايات عمر البرغوثي بالردود الثورية الأولى لشباب الأرض المحتلة على نكسة حزيران. لقد شرع بُعيد الهزيمة بالبحث عن فدائيي الدوريات3 في جبال كوبر ووديانها وداخل المغارات وبين الأشجار، ولمّا عجز عن لقائهم، ترك لهم رسالة يُعبّر فيها عن تطلّعه لأن يصبح واحداً منهم،4 ثمَّ أقبل نحو ميدان المقاومة تحرُسه الفطرة، ورغبةٌ عارمةٌ في القتال، وقليل من المعرفة، ولا شيء من المهارات.
اتسمت وثْبَته الوطنية الأولى بالجرأة والعفوية، وكانت ممتلئة بروح التحدي والعناد، ورغم فاعليتها المتواضعة، إلا أنها كانت واعدة، وقد أفصح يوماً عن بعض لقطاتها المشوِّقة، فقال: “من أول يوم دخل الاحتلال وبلَّشوا ينادوا بمكبرات الصوت ارفعوا الرايات البيضاء وِإلِّي معاه سلاح يرميه بالمسجد أو يعطيه للمختار، أنا وأخوي نائل فقط طلعنا على سطح الدار وسوينا كومة حجار، ومعنا كل واحد شبرية وقررنا ما نرفع راية بيضاء… صرت أفكر أشكِّل مجموعة، وكيف بدنا نقاوم الاحتلال بأكثر من الحجر. شكَّلت مجموعة، وكان معنا كتاب كيمياء للصف الثاني إعدادي (الصف الثامن)… كان الكتاب بطرق إلى استخدام المتفجرات، وصرنا نروح على المحاجر… في المحاجر كانوا يستخدموا ملح البارود لتفتيت الصخور… كنا نجيبه ونسوي منه عبوات”.
شارك أبو عاصف منذ نهاية ستينيّات القرن العشرين في العديد من الفعاليّات الوطنية، مثلَ: المظاهرات، وكتابة الشعارات الوطنية على الجدران، ورمي الحجارة على جنود الاحتلال، ووضع الحواجز في طريق دورياتهم، والدعوة إلى مقاطعة الانتخابات البلدية عام 1972،5 ومنع العمل في المستوطنات.6 وكانت انطلاقته الجديدة، حين حجَّ إلى جامعة بيروت العربية عام 1973، قاصداً الالتحاق بقواعد الثورة. لم يكن قد ادَّخر شيئاً لهذا السفر الثوري سوى صدق نيته، وشبكة علاقات بسيطة أوصلته إلى الحاج حسن قائد قطاع الجولان في حركة “فتح”، وجمعته بعدنان جابر في إحدى المعسكرات قرب مدينة درعا، ثمَّ بحمدي أحد أهم كوادر الكتيبة الطلابية، والذي ستربطه لاحقاً علاقات وطيدة به وبوالدته الحاجة فرحة البرغوثي.7
أمضى في حَجِّه الأول أربعة أشهر، عاش فيها مع الفدائيين في تل الزعتر ورشيف. ثمَّ عاد إلى كوبر، استعداداً لحجٍ ثانٍ، كان فيه متحرِّفاً لقتال، حيث حارب طوال ستة أشهر في بنت جبيل وقانا، ووصل سوريا متحيِّزاً إلى فئة، فنال المزيد من التدريب. ثمَّ قفل راجعاً إلى فلسطين، ثمَّ عاد إلى لبنان مرةً ثالثةً بصحبة صديقه فخري، ومنها إلى كوبر مجدداً.8
استأنف أبو عاصف التخطيط لسلسلة من الهجمات، فكان أن قاد أولى العمليات النوعيّة لمجموعته الفدائية الأولى، التي استهدفت ضابط احتياط مظلّي، يعمل سائق باص يقل عمَّالاً فلسطينيين إلى أراضي عام 1948. وقعت العملية في إحدى الليالي الماطرة من شهر كانون الثاني/ يناير من عام 1978، على الشارع الموصل بين قريتي النبي صالح وكفر عين. تسلّح المنفِّذون (فخري البرغوثي ونائل البرغوثي وأحمد القندس) بالرغبة الجارفة في العمل الوطني، وبمعرفة جيدة بالمكان، وبالتوقيت المناسب، وبشبرية حملها فخري ساعة التنفيذ، وبعد أن تلقوا التعليمات من أبي عاصف الرابض على تلٍ بالقرب من مسرح العملية، تقدّموا نحو الهدف، فقتلوا السائق، وغنموا سلاحه، وعادوا سالمين.9 بعد إنجاز العمليّة، احتفلوا بشواء عشرين شنّارة كان قد اصطادها أبو عاصف من قبل.10 ثمَّ توالت الهجمات، فحرقت المجموعة مصنعاً للزيوت تابعاً للاحتلال، وقامت بتفجير مقهىً صهيوني في القدس 11 واستمرّت في العمل الوطني المثابر عدة أشهر أخرى، حتّى اعتقل الاحتلال أبو عاصف في نيسان/ أبريل عام 1978.
حكم الاحتلال على أبي عاصف بالمؤبد، وشاءت الأقدار أن يخرج في صفقة تبادل للأسرى عام 1985،12 وأن يستأنف بعدها العمل ضد الاحتلال. ثمَّ اندلعت الانتفاضة الأولى عام 1987، وبدأ أبو عاصف مرحلة جديدة تعاون فيها مع كوادر حمساوية مسلّحة، وذلك قبل أن يُصبح التحاقه في صفوف حركة “حماس” علنيّاً. كذلك، شارك في تأسيس كتائب القسام في الضفة الغربية، الجناح العسكري للحركة، وأشرف على عدد من خلاياها المسلّحة13.
اندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000، وفتحت معها آفاقاً جديدةً للعمل العسكري كان أبو عاصف جزءاً منه. إذ أشرف بشكلٍ مباشرٍ على عدد من خلايا القسام وأمدَّها بالسلاح والتدريب، منها مجموعات عادل وعماد عوض الله التي كان لها دورٌ أساسيٌّ في استهداف الحواجز العسكرية حول رام الله وبلداتها، وقنص المستوطنين على الشوارع الالتفافية ومن مسافة الصفر. وقد أمدّها بأول قطعة سلاح استخدمتها في عدد من عملياتها، كما درّب قائدها الميداني.14 كذلك، ساهم في العمليتين اللتين نفذهما ولداه صالح وعاصم في مستوطنتي “عوفرا” (9 كانون الأول/ ديسمبر عام 2018) و”جفعات آساف” (13 كانون الأول/ ديسمبر عام 2018) المقامتين على أراضي محافظة رام الله والبيرة.15
اليقين العالي
تنبؤنا تجربة أبو عاصف في المقاومة المسلّحة عن فلسفة كفاحية صلبة وواضحة، تقوم على عدد من المرتكزات الأساسية، يأتي في مقدمتها الالتزام بتحرير فلسطين التاريخية واعتباره الهدف المركزي للحركة الوطنية، ويكون الانتماء التنظيمي الحاضنة التي يترجم من خلالها هذا الالتزام. هذا ما يُفسِّر تحوله إلى “فتح الانتفاضة” عام 1985، وانتماءه لاحقاً لـ”حماس” في تسعينيّات القرن العشرين.
ثاني هذه المُرتكزات: الإيمان بالكفاح المسلّح طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين. وقد جسَّد هذا الإيمان في جميع محطات نضاله الطويل، فما تخلّى عن سلاحه يوماً. آمن طوال حياته بالفعل الثوري المسلح، وقال يوماً مُعقّباً على من يرى طريقاً آخر للتحرير: “العدو لا يعرف إلا لغة القوة… وأنا أحكي حقائق؛ من ثورة اسبرتاتوس قبل 2000 عام وحتى اليوم، فش شعب كان محتل وتحرّر تقدَّم له الاستقلال على طبق من فضة أو بمفاوضات… كل احتلالات العالم زالت بالقوة.. وهذا الاحتلال ليس شاذاً عن الاحتلالات، وشعبنا ليس شاذاً عن الشعوب… فيتنام تحررت بالقوة، والجزائر وأمريكا الجنوبية، وفرنسا لما احتلت من النازية تحررت بالقوة، فش بقعة في العالم تحررت هدية… فعدونا لا يفهم إلا هذه اللغة، ولن يتزحزح عن هذه الأرض إلا بالقوة”.16
إنّ إيمان أبو عاصف بالكفاح المُسلّح دفعه للانفتاح على الأجنحة العسكرية للتنظيمات والفصائل الفلسطينية، فتعاون في أكثر من مرحلة مع كوادر مُسلّحة من مختلفة التيارات. إذ آوى عدداً من المطاردين من “فتح” و”حماس” والديمقراطية وغيرها،17 وتعاون مع “حماس” بينما كان ما يزال تحت إطار فتح الانتفاضة.18
عاش أبو عاصف يقيناً ثورياً عجيباً، استمدّ منه عزيمته في الاستمرار، حتى أنَّه لم يعرف الفواصل في حياته، ولم يلتفت يوماً لشعره الشايب ولا جسمه المريض، ولا لحركته الثقيلة. لقد كان هذا اليقين بلسمه حين تعرّض لتحقيق عسكريّ قاسٍ لمُدّة أربعة أشهر في اعتقاله عام 1978، وحين قضى في سجون الاحتلال ما مجموعه الثلاثين عاماً، وحين اعتقل الاحتلال والده وأخته وزوجته وأولاده، وحين اغتال ابنه صالح واحتجز جثمانه، وحين هُدِم منزلا ولديه صالح وعاصم. وعندما أخبره ضابط الاحتلال بأنه قادم لهدم بيت صالح، ردّ عليه بيقين عالي: “إن هدّيتوا الحجار ما بتهدوا عزيمتنا… أنتم زائلون والحجارة باقية”.19
هذا اليقين الفريد كان دافعه الالتزام بهموم الحركة الوطنية وقضاياها، ومحاولة استغلال كلّ مناسبة بتحويلها إلى رافعة وطنية. ويقينُ أبو عاصف مُستمدٌّ من ثقافة مجتمعه وتراثه، فكانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأمثال الشعبية والأهازيج التراثية البئر الذي اغترف منها تنظيراته الثورية.
“بزبطش يشبع”
عاش أبو عاصف حياة المطاردة لسنوات نتيجة عمله المُسلّح، وخَلُصَ إلى جملة من القواعد والتنظيرات المفيدة. فهو ابنٌ وفيٌّ لمدرسة الريف في المطاردة، إذ رأى في الجبال وما فيها من مُغر وقصور وعِزِب وأشجار مثمرة ونباتاتٍ بريّة عالمَه الحنون، ودرعَهُ الواقي.
يُخبرنا أحد الذين شاركوه مطاردته عام 1990: “نمت مع أبو عاصف في مغارة، وكان حلمه يبني مدينة تحت الأرض وما يعتمد على الدور العادية في القرى. كان له طرقه في الملاحظة والانتباه، مثلاً يضع كلب في الطريق ولما يمر عنه يعوي الكلب، فيكمن على بعد 200 متر منه، فإن عوى الكلب مرة أخرى تأكد أنّ أحداً يلاحقه، وإن سكت أدرك أنَّه وحيداً في المنطقة. وكان يضع تنك في الطريق ويكون شابكهم في خيط، إذا مر واحد لا بد يصطدم بالتنك وراح يطلع صوته، فيعرف أنَّه ملاحق. كان أبو عاصف يمتنع عن الحركة في النهار، وكان لا يقعد في مكان واحد أكثر من يوم. وكان في العادة يلبس بالطو أو عباية يخبي السلاح فيها، ويضع في الجِيَبْ زبيب وقُطِّين وتمر…، معتبراً أن هذا هو طعام المقاتل، وأن المطارد، على حد قوله، بزبطش يشبع. كان يقول إنَّ على المطارد صنع ملجأه الخاص بيده، وكان شعاره الدائم في مرحلة المطاردة: تقعد في زنزانة من صنع يدك ستين سنة ولا تقعد ستة ساعات في زنزانة العدو”.20
مقاومة استثنائيّة لمدّة 28 يوماً
واجه أبو عاصف نهاية مشواره بشجاعة. أصيب بفايروس “كورونا”، فقاومه طوال ثمانية وعشرين يوماً، إلى أن صعدت روحه في الخامس والعشرين من آذار/ مارس عام 202121. ببركة عمله، نال مكانة كبيرة بين الفلسطينيين، وشكَّل حالة إجماع بينهم، وأطلق عليه الناس عدة ألقاب منها: الجبل، والرجل الذي هزم “إسرائيل”، وسيدي عمر، وصاروخ الحقيقة.
يوماً ما، سأله ضابط المخابرات الإسرائيلي ما إن كان سيداوم على المقاومة، فأجابه: “ما دام الاحتلال موجود المقاومة موجودة، مش مني بس من شعبنا جميعه… ما حدا بقبل بالذل والهوان والاحتلال… فش الكم الا ترحلوا عن أرضنا”. أمَّا الوحدة التي نادى بها، فتكون “حول المقاومة… حول بوصلة واحدة تتجه نحو حيفا ويافا والقدس وصفد”.22
هكذا، فارق أبو عاصف الدنيا الفانية، بعد أن بنى إرثاً كفاحياً صلباً، وخطَّ تجربة نضالية عريقة.
المصادر والمراجع: