أخر الأخبارالقضية الفلسطينيةمستجدات سياسية

رسالة إلى المشايخ والعلماء حول علاقة حماس بسوريا

هيئة التحرير

إنّه لا يخفى على أمثالكم، من أصحاب العلم والنظر والإحساس العميق بالمسؤولية تجاه أمتنا، وقلب قضاياها، القضية الفلسطينية، الثغر الذي تقف عليه حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، التي تسترشد ببعيد نظركم، وعميق علمكم، وتستظلّ بعنايتكم ورعايتكم، إذ تنطلق الحركة في الأساس، في واجبها الجهادي، من مرجعية دينية وأخلاقية، تتمثّل في دفع الظلم لا عن سكان الأرض المقدّسة في فلسطين فحسب، بل وبدفعه عن العالم عمومًا لما يمثّله الكيان الصهيوني من مشروع إمبريالي متفوق يتجلّى فيه الشرّ العالمي، وعن أمتنا العربية والإسلامية، إذ وجود الكيان الصهيوني ضمانة تمزّق الأمة وتخلّفها والتفوق الغربي الاستعماري، ثم إنّ الحركة في اندفاعتها لجهاد هذا العدوّ تلاحظ المكانة الدينية الخاصّة لبيت المقدس، وقلبه المسجد الأقصى المبارك.
إلا أنّ هذه الأمانة التي نهضت بها الحركة تزداد جسامة وخطورة ودقّة في السنوات الأخيرة، أكثر من أيّ وقت مضى، لجملة من الظروف والأسباب التي لا تغيب عنكم، وتدفع الحركة لإعادة النظر في سياساتها على ضوء هذه الظروف والأسباب، فالحركة السياسية الإسلامية بمرجعيتها الدينية والأخلاقية في أصلها غير منفكّة عن الوقائع في الأرض بما يستدعي تنزيل الضوابط الدينية والأخلاقية في حدود القدرة والاستطاعة وطبيعة المهمة ومستوى التداخل بين المنافع والمضارّ، وهذه الرؤية للحركة السياسية، ينبغي أن تكون أوضح ما هي عليه في الحالة الفلسطينية في هذا الظرف شديد الحرج.
إنّ شدّة الحرج التي نعنيها، لا نشكّ في كونها معلومة لكم، لكن أولى الناس بالذكرى هم المؤمنون، وطليعة المؤمنين في ما نحسب هم أهل العلم من أمثالكم، ومن ثمّ فإنّنا، وفي سياق تداول النظر والرأي معكم، نسعى أن نجلّي أكثر ما نعنيه بشدّة الحرج في هذا الوقت الخاصّ، لتضح أكثر أسبابنا في استعادة العلاقة مع النظام السوري.
ولأجل ذلك، فإنّنا في هذه الورقة، سوف نبين أولاً لعلمائنا ما نراه من حرج قاهر في ظرفنا الراهن هذا، مع التركيز والبسط في ذلك لأنه المقدمة المهمة لفهم أحسن لحركتنا، ثم نوجز ثانيًا رؤيتنا للجمع بين ضروراتنا السياسية والتزاماتنا الدينية والأخلاقية تجاه أمتنا وما تنطوي عليه تلك الالتزامات من إدراك لمقتضيات الموالاة الإيمانية، وثالثًا، وعلى ضوء ذلك كلّه، نبيّن باختصار ما نراه من فائدة لاستعادة العلاقة مع النظام السوري، ثم نختم بإجابات على مخاوف متوقعة. فإذا اتفقنا على الرؤية العامة وتشخيص الواقع والمقدمات، يصبح الاختلاف في فائدة العلاقة من عدمها، أمرًا خاضعًا للتقدير السياسي، وما تحتمله السياسة الشرعية، فلا تشدّد في ذلك ولا تبكيت، وإنما تفهم واحترام للآراء كلّها، لأنّها لا تنطلق إلا من الحرص على الحركة والقضية والأمّة.
ونحن وإذ نتوجه إليكم بهذا الخطاب، لعلمنا بأهمية موقفكم ورأيكم، فإننا ندرك تمامًا حجم الحساسيات في هذا الوقت الجاري، وضغط اللحظة، بما قد يحول دون اتفاق البعض معنا، في قراءتنا السياسية، واختياراتنا المبنية عليها، وبقدر ما نتفهم ذلك، فإننا في الوقت نفسه، ندرك أن الفضل بيننا سيبقى قائمًا، وأن مشايخنا وعلماءنا وإخواننا لن يكشفوا ظهورنا، وسوف يحفظون للحركة تاريخها وجهادها، وستبقى ثقتهم قائمة بها، وبهويتها، ومكانتها، ودورها، بعدما ما خبروه منها في تاريخها الطويل، واستمرار جهادها إلى اليوم، وهي بدورها لا تدير ظهرها لعلمائنا، ولا إلى أحد من إخواننا، فجهاد هذه الحركة، هو جهاد عن الأمّة كلّها، لا عن الشعب الفلسطيني وحده، وعلى هذا الأساس تتخيّر خطواتها، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله رب العالمين. ونحن وإذ نخاطب مشايخنا، نهدف، في ما نهدف إليه، إلى بيان منطلقاتنا التي لا تغفل ملاحظة مصالح الأمّة عمومًا، ولا الموقف الشرعيّ من صوابية خياراتنا، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

القسم الأول: ظروف الحرج العام

أولاً- لم تكن القضية الفلسطينية في أيّ وقت، تعاني انكشاف الظهر، والتخلّي، والخذلان، والتراجع، كما تعانيه الآن، وذلك في جملة مظاهر شديدة الخطورة، من أبرزها:

  • مآلات السلطة الفلسطينية، التي أصبحت بلا أفق سياسيّ، وصارت هدفًا في حدّ ذاته، بما تمثّله من مشروع لحركة تاريخية، هي حركة فتح، وبما يرتبط بها من مصائر الفلسطينيين جميعًا، مما يعني الخطورة البالغة في تفرّد موقفها وسياساتها بالساحة الفلسطينية، وضرورة وجود تيار قوي مخالف لا بالموقف المجرد بل بامتلاكه أدوات القوّة. فإنّ مشروع التسوية (السلام والمفاوضات)، تحوّل من وجهة نظر لدى قيادة منظمة التحرير تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، تحوّل إلى بنية مرتبطة بالاحتلال عضويًّا، توفّر له الفراغ اللازم للتمدد الاستيطاني في الضفّة الغربية والقدس، والتمدد الاستعماري السياسي والعسكري في المنطقة العربية كلّها، كما أنّها هي نفسها (أي السلطة) تساهم إلى جابنه وإلى جانب جزء مهم من المنظومة العربية الرسمية، في حصار قطاع غزّة.
  • هذه البنية التي هي السلطة الفلسطينية بنخبتها وقيادتها الحاليّة، بالرغم من مشيئتنا وإرادتنا، ترتبط بها مصالح ملايين الفلسطينيين، كأيّ نظام رسميّ، ومن ثمّ، فإنّ تفرّدها بقيادة المركب الفلسطيني، تعني حتمًا وبالضرورة، غرق فلسطين في البحر الصهيوني، ومن خلف ذلك الأمة العربية والإسلامية.
  • إنّ المصلحة، تقتضي والحالة هذه، تحصيل ما يمكن كسبه، لصالح قوّة حركة حماس، لا بالمعنى الحزبيّ الضيق، ولا بالمعنى الفلسطيني الوطني القطري، ولكن بالمعنى العامّ للأمّة كلّها، فحماس بوصفها القوّة الفلسطينية الأكبر في مواجهة المشروع الصهيوني؛ تحمل مسؤولية صدّ إغراق الأمّة في البحر الصهيوني. وضعف الحركة أو هزيمتها، والحالة هذه، هي هزيمة خطيرة للأمّة كلّها، فيكون بعض ما يترتب على حاجة الحركة خاصّة، أو حاجة شريحة واسعة من الفلسطينيين كأهل قطاع غزّة، أو حاجة الفلسطينيين كلّهم من باب أولى.. ضرورة عامّة، لعموم الحاجة، والعموم هنا يستغرق الأمّة تبعًا، فانكسار أهل الجهاد والمقاومة في فلسطين، يعني انكسارًا للأمّة قد يطول آمادًا متطاولة، ومثل هذا الانكسار لا ينتفع به أحد من الأمّة.
  • التحالف المعلن والظاهر والمكشوف بين دول عربية والكيان الصهيوني، وقد انتقل الأمر من تسويات سلمية بين دول عربية وبين الكيان، إلى تحالف إستراتيجي، بمبادرة ذاتية من تلك الدول، ورعاية من الولايات المتحدة الأمريكية. وأيّ تحالف مع الكيان الصهيوني هو تحالف ضدّ فلسطين بالضرورة، وتضييع فلسطين، كما سلف قوله، هو تضييع للأمّة كلّها.
  • إنّ حكاية عداء الأنظمة العربية للحركة طويلة، لاسيما تلك الأنظمة التي أقامت علاقات دبلوماسية كاملة مع الاحتلال، إلا أنّ الحركة ظلّت تسدّد وتقارب لأجل تخفيف ذلك العداء، بالرغم مما لاقته من حصار، واعتقالات لعناصرها، ومنع من السفر، وتشهير وتشويه، وتعاون أمنيّ مع العدوّ، بيد أنّ الأمر الآن انتقل إلى سياسات تهدف إلى تكريس لا الوجود الصهيوني في المنطقة فحسب، بل وتكريس سيادته، ونشر سرديته وروايته والترويج لها، وشنّ حملات إعلامية وثقافية بهدف تحطيم القضية الفلسطينية، وتشويه الفلسطينيين، ونقض حقهم في فلسطين، واتصل بذلك، أن تلك الأنظمة عادت الحركة الإسلامية برمّتها، بل ولم تبتعد عن سياسات تمسّ الإسلام نفسه، فلم تعلن الحرب الكاسحة على الحركة الإسلامية وتقطع أرزاق أبنائها وتلقي أبناءها فضلاً عن قادتها وعلمائها ومشايخها في السجون فحسب بل وانتهجت سياسات تضعف حضور الدين وقيمه وأحكامه في المجال العام، وذلك لعلمها بالارتباط العضوي بين قوّة حضور الدين في المجال العام، ومن ثمّة قوّة الحركة الإسلامية، ومن ثمّ قوّة الخطاب المعادي للكيان الصهيوني والمناصر لفلسطين.
  • إنّه وإزاء هذه الحالة، لا يمكن مطالبة حركة حماس، إلا بالتحصن بما يقوي موقعها في مواجهة الكيان الصهيوني والتحالف الذي يدعمه ويعاديها بالضرورة، وهي إذ تسعى إلى ما يقوى موقعها، لا يخفى عليها أن بعض ما تختطه من سياسات، قد ينطوي على شيء من التناقض مع مصالح أخرى في الأمة، إلا أنّها تحلّ ذلك التناقض بملاحظة تفويت المفسدة الأدنى، وملاحظة عموم الحاجة كما سلف قوله، وملاحظة ارتباط حالة التخلف والتردي والفساد والاستبداد في الأمة بوجود الكيان الصهيوني. ومن ثمّ فإنّ قوّة الحركة، مصلحة حتى لأطراف في الأمّة قد ترى نفسها متضرّرة من بعض سياسات الحركة.
  • ترتبط الحركة بعلاقات صداقة مع دول في المنطقة، لا ترتفع بسقفها على سقف الشرط الدولي، وإنّما ترتبط بتحالفات مع الولايات المتحدة، وعلاقات معلنة، أو غير معلنة، مع الكيان الصهيوني، مثل تركيا وقطر، وقد كانت الحركة، وما زالت، تعذر أصدقاءها هؤلاء، وفق رؤيتها للسياسة الشرعية التي تسعى لتفويت المفاسد، وتحقيق المصالح، ومراعاتها للوقائع التي قد تنطوي على أقدار من الممانعة حين تنزيل الحقّ والعدل عليها، وإحسانها الظنّ بمن يسعى للمواءمة بين قدراته المقهورة وقدراته الممكنة فيدعم الحركة ولو في حدود دنيا، فلا تساوي الحركة بينه وبينه من يحاربها، أو يلتحم مع العدوّ في خندقه ضدّها وضدّ أمّتها.
  • أصدقاء الحركة هؤلاء، وفي حدود قدراتهم وظروفهم الخاصّة، قد يضطرون لمناورات، أو استدارات، تجعلهم أقلّ قدرة على احتمال الحركة، فربما اضطروا إلى ما من شأنه أن يضيّق على الحركة، وقد لاحظ الجميع حصار قطر من قبل وما كان يمكن أن يفضي إليه، والجميع الآن يلاحظ حرج حكم العدالة والتنمية التركي بين يدي انتخابات 2023، وعدم كفّ النظام الاستعماري العالمي مساعيه لتحطيم هذه التجربة أو ضمان إبقاء تركيا مرهونة إلى هيمنته وقيوده وكبح مساعيها للاستقلال عنه.
  • ولا شكّ أن العلماء والمشايخ، وهم يلاحظون هذه الاحتمالات الأخيرة، سوف يطالبون الحركة بأن توسّع من خياراتها، وتتلمس بدائل لعملها وحركتها، ولا يعقل أن يحصل ذلك والحركة واقفة تتفرّج بانتظار تحوّل الاحتمال إلى واقع، وإنما الحركة الفاعلة والمبصرة تستبق الاحتمالات وتعمل على ضوء ذلك، وهو ما يجعل للحاجة والضرورة في الفعل السياسي مضامين أخرى غير تلك التي قد تنحصر في مستوى الفرد، وهو ما يمكن فهمه، من بعض السياسات النبوية إثر صلح الحديبية، أو يمكن فهمه من ارتباط النصرة في بعض الأحوال باعتبارات سياسية، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنِ استَنصَروكُم فِي الدّينِ فَعَلَيكُمُ النَّصرُ إِلّا عَلى قَومٍ بَينَكُم وَبَينَهُم ميثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعمَلونَ بَصيرٌ﴾، ونحن هنا لا نذكر هذا الطرف من الآية في موضع الاستدلال الجزئي، ولكن في موضع الوعي بمراعاة الوحي لما يمكن أن يعتري الحركة السياسية من قيود.
  • واستطرادًا مع هذه النقطة، فإنّه لن يخفى على علمائنا، أنّ الحركة وفق رؤيتها سالفة الذكر، حول مراعاة المصالح وإعذار المسلمين وملاحظتها لحدود قدرة داعميها واستطاعتهم، إنما كانت تفعل ذلك إزاء سياسات تناقض مصلحة الحركة والقضية الفلسطينية، ولكن الحركة ميّزت بين الأعداء الخلص الصرحاء المخلصين في تحالفهم مع العدوّ، وبين دول لديها سياسات تقترب من العدوّ أو تبتعد عن الحركة، ولكنها لا تنبع من موقع العداء الصريح، وإنما من موقع الحاجة، أو الاضطرار، أو حدود الاستطاعة، أو وراثة تلك السياسات بما يصعب التخلص منها، ومن ثمّ فهي ترجو، أن تُعامل بالمثل حينما تجنح إلى سياسات تحملها عليها حاجتها أو ضرورتها أو حدود استطاعتها حتى لو انطوت على تناقض نسبيّ مع هذه الجهة أو تلك في الأمة، لا سيما وأن حاجة الحركة تنتهي إلى أن تكون حاجة عامّة للأمّة كما سلف بينه.
  • إنّه وعلى ضوء ذلك، يمكن تقدير الخطر الداهم بالمسجد الأقصى، الذي انتقلت سياسات تهويده إلى مرحلة تقسيمه زمانيًّا ومكانيًّا، بتواطؤ أو خذلان كامل من دول يفترض أنّ المسجد والقدس داخلان في رعايتها. وبالإضافة للخذلان العربي المطبق، أو المتواطئ، فإنه لا يمكن الزعم أنّ ثمّة حركة جادّة في الأمّة من شأنها دعم الفلسطينيين في دفاعهم عن المسجد في ظرف من ميزان القوى المختلّ على نحو فاضح لصالح الاحتلال، وسياسات للسلطة الفلسطينية تكبح جهاد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وقدرات للاحتلال لعزل المقدسيين وتفكيك هباتهم، في حين يستمرّ حصار قطاع غزّة، وينوء بآثار الحروب المتتالية، مما يجعل قدرات المقاومة فيه غير مطقة اليد، ودون أن يتمكن أيّ طرف في الأمة من فك حصارها، أو دعمها بما يعزز صمودها، أو يوثّق من التفاف الحاضنة الشعبية حولها، ولا شكّ أنه لا يخفى على علمائنا أن الخطر على الحركة في قطاع غزّة لاستمرار الحصار لا يقلّ عن الخطورة المحدقة بالمسجد الأقصى، وهو خطر يزداد فداحة مع التحالف العربي الصهيوني المتصاعد، ومن ثمّ فلا يتوقع من الحركة بعد ذلك إلا تنشيط سعيها للبحث عن بدائل لتعزيز صمود أهلنا في الداخل، وإسناد جهادهم ومقاومتهم.

ثانيًا- فداحة حالة التجزئة والانقسام في الأمّة. فحين الحديث عن الأمة في النقاش السياسي، فإننا لا نحيل إلى معنى تجريدي منفصل عن الواقعة السياسية.

إننا ننطلق ابتداء من المعنى الإيماني للأمّة، وهو معنى ينتظم حركة المؤمنين في الزمان والمكان بما يجعلهم حركة واحدة تمخر عباب الزمان والمكان، كما في بيان الأمّة الواحدة في سورتي الأنبياء والمؤمنون، بعد ذكر الأنبياء عليهم السلام، ونحن نحتسب أنفسنا من هذه الأمّة بهذا المعنى، إلا أنّنا حين تناول مفهوم الأمة في إطار الواقعة السياسية، سوف نلاحظ طبقات من الانقسام، بما ينعكس خطرًا جسيمًا على الحركة والقضية الفلسطينية، وذلك كما يلي:

  • طبقة الانقسام القديم. فالأمة منقسمة بين عشرات الدول والنظم السياسية، في إطار الدولة القومية الحديثة، وقد تطبّع الوعي العام، بما في ذلك وعي الحركة الإسلامية ونشاطها، مع واقعة الدولة الحديثة. وبالرغم من أنّ قضية الدولة الحديثة قضية فكرية وسياسية بالغة التعقيد والعمق، بما لا يتيح نقاشها هنا، إلا أنّ ما نودّ قوله، إنّ مفهوم الدولة الحديثة ينطوي على قدر من التناقض مع مفهوم الأمّة بالمعنى الإيماني، لأنّ الدول الحديثة، المجسّدة للعلاقة العضوية بين شعب معين وأرض معينة، قد تتبنى سياسات تتناقض مع أطراف أخرى في الأمة، أو قد تحوز أولويات لا تلتقي مع أولويات أطراف أخرى في الأمّة. وقد رضيت الحركة الإسلامية أن تجعل من هذه الواقعة السياسية إطار عملها، وقادها ذلك في أكثر من بلد إلى سياسات وخطابات تضمنت في بعضها تراجعًا عن منطلقاتها، بل ومسًّا بالقضيّة الفلسطينية. وليس هذا موضوع تقييم مسارات الحركة الإسلامية في البلاد العربية والإسلامية، وإنما تذكير بهذا الانقسام والتطبع معه وكونه واقعة لا يمكن لحركة مقاومة محاصرة تواجه في التحليل النهائي العالم كلّه، إلا أن تأخذه بعين الاعتبار.
  • طبقة الانقسام في العلاقات البينية، وهو انقسام قديم كذلك، فالصراعات العربية العربية، ضيعت فلسطين مرتين في الـ 1948 و1967، وتطورت أشكال هذه الصراعات، ففي بعدها العربي فقط، أخذت في وقت ما شكل الصراع بين قوى ثورية “تقدمية” وقوى “رجعية” ملكية، ثم الانقسام بعد توقيع مصر السادات اتفاقية كامب ديفد، ثم الانقسام بعد غزو العراق للكويت، ثم محوري المقاومة والاعتدال، ثم حصار قطر.. الخ، وهذا فضلاً عن الخلاف الجزائري المغربي، والخلافات العربية التي كانت تنعكس على نضال الفلسطينيين منذ ستينيات القرن الماضي، واشتباك بعضها عسكريًّا مع قوى فلسطينية، وغير ذلك من الصراعات والانقسامات، التي تزداد اليوم سوءًا بعد ما سبق بيانه من تشكيل تحالف معلن مع “إسرائيل”، مما قد يدخل المنطقة في مواجهة عاصفة لا تُعرف عواقبها ولا اصطفافات الأطراف المختلفة فيها.
  • طبقة الانقسامات الأهلية الداخلية، وهي شديدة الوضوح والتجلي والتبلور في سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان، وتلك الانقسامات غير بعيدة عن الانقسامات الأصلية، في طبقاتها السابقة، بمعنى أنها مرتبطة بانقسامات الدول العربية والإسلامية وانقسامات أنظمتها السياسية، وبينما تأخذ هذه الانقسامات الشكل السياسي كما في ليبيا وإن لم يكن يخلو من أسس جهوية وقبلية، فإنّه يأخذ الشكل الطائفي والمذهبي في بلاد أخرى، ولا تبتعد هذه الانقسامات عن التأثير على القضية الفسطينية بحسب تحالفات أصحابها، ولم تكن حركة حماس إزاء ذلك كله، في الأغلب الأعمّ من خطاباتها ومواقفها، لتتبنى مواقف حتى ضدّ بعض من صاغ خطابات ضدها، وذلك لأنّ الحركة تدرك تعقيدات الانقسامات الأهلية في البلاد العربية، وتدرك تحوّلاتها، وتعلم أن أعداء اليوم قد يكونون حلفاء الغد، وقد لاحظنا التغيرات في الخطابات والمواقف السياسية في العراق بين السنة والشيعة حول فلسطين، والاحتلال الأمريكي، والفدرالية، وسوى ذلك، وكل مكوّن كبير من هذه المكونات (سنة، شيعة) لا يخلو من انقساماته الداخلية حتى في العلاقة مع إيران. كما لاحظنا انقسامات السوريين بين الموالاة والمعارضة، وانقسامات المعارضة نفسها التي أخذت أشكالاً دموية، وانقساماتها في علاقاتها الإقليمية، وانقساماتها في قضية المصالحة مع النظام، أو سبل العمل ضده. كما لاحظنا تحولات تحالفات المشهد اللبناني فتحالف حزب الله/ التيار العوني جديد بالنسبة للعداوة التاريخية بينهما. كما أن القتال في ليبيا انعطف نحو مسارات المصالحة، ولا ينقطع الحديث في المشهد اليمني عن المصالحة ووقف الحرب، وقد كان لهذا المشهد كذلك تحالفاته المتحولة كذلك، والقوى التي شكّلت أحداث 30 يونيو في مصر تفككت.. الخ..
    إنّ ما سبق عرضه من انقسامات أهلية أو سياسية مجرد لقطات لمشهد أكبر بكثير، ومن ثمّ، فإنّه لا يعقل أن تتعامل الحركة مع كل تلك الانقسامات بتحولاتها وسيولتها، وكأنها حدث ثابت، أو موقف أخلاقي لا يتغير، بينما يتغير أصحابها باستمرار وينقسم أصحابها على أنفسهم باستمرار، فكيف يمكن للحركة أن تلتزم خطوات سياسية ثابتة تجاه الأحداث والفرقاء والتغيّر والانقسام سيد الموقف من حولها؟ لا يمكن للحركة، على ضوء واقع التجزئة وليس على ضوء موقف أصلي، أن تكون ملكية أكثر من الملك، فتتبنى موقفًا لصالح طرف قد ينقلب هو على موقفه غدًا.
  • ولا تقتصر الانقسامات على المجتمعات الأهلية، بل والحركة الإسلامية نفسها، تعاني من انقسامات في بعضها متصلة بسياسات الدول، وفي بعضها بسبب الأزمات التي مرت بها، وما تحيكه له الأنظمة السياسة في بلدانها. والمشاهد من حال الحركة الإسلامية في البلاد المحيطة بفلسطين وأكثرها اتصالاً بالقضية الفلسطينية يغني عن كل قول.

ثالثًا- العجز في القوى الشعبية، بما في ذلك الحركة الإسلامية، عن دعمنا، أو فعل أي شيء لفلسطين، في هذا الوقت الحساس بالذات، مع تقديرنا الكبير لما سبق تقديمه، لمّا كان أهلنا وناسنا قادرين على الفعل والدعم في حدود استطاعتهم.
إن عجز الحركة الإسلامية، والقوى الشعبية، غير منفكّ عن حالة الانقسام والتجزئة، ومتصل بإرادة التحالف مع العدوّ الصهيوني، فالحركة الإسلامية وقوانا الشعبية، يدفعون ثمن الردّة على الثورات العربية وإرادة التحالف مع الكيان الصهيوني، وإعادة صياغة المنطقة بما يضمن تأبيد الوضع الراهن، ومن ثمّ فالمسألة غاية في التداخل والتعقيد، ولا يمكن التعامل معها بمنطق حدّي ثنائيّ، وعليه فإنّ تقوية الموقف ضدّ الكيان الصهيوني هو تقوية للموقف ضد المشهد العربي الراهن، ومآلاته المستبقلية الكارثية إن كبّلنا الجميع عن الفعل.
وهنا يمكننا القول إنّ القوى الشعبية وفيها الحركة الإسلامية غير قادرة على فعل الشيء الكثير المؤثّر في هذا الوقت لحماس ولفلسطين، وهم معذورون في ذلك لظروفهم المعلومة لنا ولهم، ولكن من نصرتنا لهم تقوية موقفنا في مواجهة الكيان الصهيوني، ولا ينبغي توهّم سياساتنا التي تهدف إلى تقوية موقفنا وتوسيع خياراتنا وكأنّها على النقيض الكامل لمصالح الأمّة وأطرافها المتعددة.

تلخيص:

وعليه فإنّ الخطر الجسيم الذي يهدد القضية الفلسطينية بالتصفية، مع الانحراف الكبير في سياسات نخبة السلطة، وانكشاف ظهور الفلسطينيين عربيًّا، والتشكيل المعلن لتحالف صهيوني/ عربي، والانقسامات العربية والإسلامية المتكاثرة، واحتمالات التضييق على الحركة أكثر، واستمرار حصار غزّة، وتكبيل أهالي الضفة، وتصاعد سياسات تهويد المسجد الأقصى، وسحق عدد من البلاد العربية للقوى الشعبية، وعجز الحركة الإسلامية عن تقديم شيء، يدفع الحركة لتوسيع خياراتها والاستعداد بالبدائل لأي تحوّلات وتقوية تحالفاتها. والنقاش يكون حينئذ مع الحركة لا في صوابية الاتجاه الأخلاقي، فالانطلاق من الظروف القاهرة لتقوية الموقف ضدّ العدوّ الصهيوني هو موقف أخلاقيّ بامتياز، وإنما يكون النقاش في تحقيق تلك المنافع التي ترجوها الحركة، فيعود النقاش للسياسة الشرعية مما يمكن التسامح فيه والإعذار.

القسم الثاني: جمعنا بين مقتضيات حاجتنا السياسية وبين مرجعيتنا الدينية والأخلاقية.

أولاً- لا تتحرك حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، انطلاقًا من دوافع حزبيّة ضيقة، ولا نعرات وطنية وقومية خاصّة، وإنما من فهمها لموقع الثغر الفلسطيني بالنسبة للأمّة كلّها، على النحو الذي جرى بيانه. وذلك لأنّ تصفية الكيان الصهيوني شرط ضروري لنهضة الأمة، ولتصفية خلافاتها الداخلية بلا مؤثّر استعماري خارجي، وإلى حين تكوّن الظروف المساعدة على تصفية الكيان الصهيوني لا بدّ من صمود الحركة، وكلّ من يواجه مسار التردّي في العلاقة معه والموقف منه، لأنّ في هزيمة الحركة إطالة لأمد المحنة الجارية على الأمّة كلّها.

ثانيًا- إنّ واقع التجزئة متعدد الطبقات والمستويات الذي تعاني منه الأمّة، يفرض على الحركة نمطًا من السياسات قد ينطوي على شيء من التناقض مع مصالح أخرى، لكن الأمر ليس اختيارًا بقدر ما هو واقع حاكم لجميع العاملين في هذه الأمّة. وتناقضات كهذه في المصالح قد كانت موجودة دائمًا، في أزمنة الأنبياء عليهم السلام، وقد لاحظنا زوايا النظر بين هارون وموسى عليهما السلام في مشكلة عجل السامري، ولاحظنا ماذا انبنى على صلح الحديبية، في تشكل جماعة للمسلمين خارج حيّز المدينة النبوية لها مصالح تبدو في ظاهر الأمر وكأنها متناقضة مع مصلحة الجماعة في المدينة، وسوى ذلك، مما نتعلمه من العلماء الأجلاء والمشايخ الفضلاء، إذ نحن لسنا بصدد الاستدلال، كما لسنا في غفلة عن سياقات تلك الأدلة والحوادث، ولكننا في صدد بيان أننا غير منفصلين عن مرجعيتنا الأخلاقية في اختياراتنا السياسية، التي لا يمكنها أن تكون مصمتة إزاء واقع كهذا.

ثالثًا- تعتقد الحركة أنّه لا مناص من وقوع مفاسد حين محاولة جلب المصالح، طالما أن الحركة السياسية لا بدّ وأن تتصل بفاعلين آخرين، فلو أردنا التزام مسلكية أخلاقية مطردة، لا تميّز بين الفاعلين السياسيين في العالم، لكان ذلك يعني مقاطعة العالم أجمع، وهو أمر غير ممكن ولا يفعله أحد، ولا يمكن به تحقيق أدنى مصلحة لعموم المسلمين ولا لآحادهم. فما من دولة، ولا نظام سياسي، إلا وقد اقترف مفاسد كبرى، فالأنظمة السياسية القائمة في العالم الإسلامي، بما في ذلك أحسنها حالاً، سوف نجدها إمّا متعاونة مع الولايات المتحدة بما قد ينتهي إلى إزهاق أرواح أبرياء في هذا البلد أو ذاك، أو مطبّعة مع الكيان الصهيوني بما يفتّ في عضدنا ويحرجنا أمام شعبنا وقواعدنا وحلفائنا وخصومنا في آن واحد، أو تشرّع ما يخالف شرع الله، أو تقتل وتسجن ظلمًا، اتسع ظلمها أو ضاق.. فما هو المعيار حينئذ في التواصل وإقامة العلاقات طالما كان هذا حال العالم؟ وما دمنا لا نجد قوّة أو دولة صالحة نسند ظهورنا إليها وتغنينا عن غيرها؟ وما دام المسلمون بهذا الانقسام والشرذمة والتجزئة وما دمات الحركة الإسلامية والقوى الأهلية والشعبية بهذا العجز؟
لا يمكن والحالة هذه مطالبة الحركة بمقاطعة العالم، ولا شك أن أحدًا لا يطالب الحركة بمقاطعة العالم، كما أنه لا شك أن ثورات وقوى في البلاد العربية أسست علاقات ومدت جسورًا وأخذت دعمًا من دول وأنظمة بعضها له تجربة احتلال دموي لبلاد عربية وإسلامية، وبعضها مستبد ظالم، وبعضها معاد لحركتنا وشعبنا وقضيتنا، وقد تفهمنا وتفهم الأكثرون ذلك، لعلمنا بمحدودية الخيارات في هذا العالم الظالم، الذي لا يمكن جلب مصلحة سياسية فيه دون اقتراف مفسدة.
بل وأكثر من ذلك فقد رأينا استعانة بـ “النيتو” وتدخلاً منه مباشرًا في ليبيا بالرغم من أنه كان ما يزال يحتلّ بلادًا مسلمة، وسمعنا من علماء كبار نداءات للولايات المتحدة للتدخل في سوريا، والتي هي منبع الشرور في هذا العالم، ومثبّت عدونا في بيت المقدس، وقد دمرت بلدين مسلمين، وقتلت الآلاف فيهما، ولم نرَ إزاء ذلك كبير نكير، بل ربما رضى وتأييدًا، وفي المقابل نلاحظ تشدّدًا مع حركة حماس لا نلاحظه مع غيرها، مع أنّه ينبغي الحفاظ على الحركة، بوصفها قوّة قائمة على أقدامها، وذلك في حين أن الحركة لم تقدّم، لا هي ولا عناصرها، أي خطاب مناوئ لخيارات ثورات وقوى ودول تحظى بتعاطف أو احترام من العلماء أو من الحركة الإسلامية عمومًا، مع أن تلك الخيارات فيها تناقض معنا، وإنما تفهمنا ذلك ولم نناوئه في خطابنا لفهمنا أن الموالاة الإيمانية، والمسلكية الأخلاقية، لا تتحرك في فضاء تجريدي منعزل عن الواقع.
وحين النظر إلى حسبة المصالح والمفاسد، فإنّه بأقرب نظر يمكن القول، إن مكاسب الحركة في التحليل النهائي هي مكاسب للأمة كلها بكل قواها، بينما خسارة الحركة هي خسارة للأمة كلها بكل قواها، ولما كان الأمر كذلك، لم يكن ثمة معنى، أن تخسر الحركة بلا فائدة متحققة لغيرها من أطراف الأمة، لاسيما في هذا الوقت الذي سبق بيان جانب مما فيه من حرج شديد. بينما حينما توقعنا من بعد العام 2011 أن خسارتنا قد تحقق مكسبًا لغيرنا دون أن يكون في خسارتنا انتحار لنا، فعلنا ما يمكننا فعله. إلا أنه لا يمكن الاستمرار في الفعل نفسه، طالما أنه لم يعد يحقق مكسبًا لغيرنا، وقد يكون المضي فيه انتحارًا لنا.

رابعًا- تميّز الحركة بين العدوّ الأجنبي، وبين العداءات الحاصلة داخل الأمّة، وهذا ليس من باب المفاضلة بين القضايا، أو بين الشعوب، ولكن بنظرة تاريخية وواقعية وإيمانية، فالمؤمنون أنفسهم قد يقتتلون، والحروب الأهلية، والانقسامات الداخلية، وحتى الثورات، لا بدّ وأن تنتهي بتسويات، فحتى ما يبدو صراعًا جذريًّا مع نظام سياسي عربيّ ما، لا يمكن أن يمتد إلى ما لا نهاية صراعًا صفريًّا مع حواضنه الاجتماعية وشبكاته الزبائنية. فما من نظام عربيّ إلا ويحظى بدعم من شرائح اجتماعية وشبكات زبائنية، هذا فضلاً عن الطوائف والمذاهب التي يعد أهلها بالملايين. فهل يمكن القول والحالة هذه، إن معالجة هذه الخلافات سيكون بالمستوى نفسه من معالجة احتلال كالاحتلال الصهيوني؟ لا نحسب أن أحدًا إذا تجرّد من العاطفة وضغط اللحظة الراهنة وإلحاح الألم الذاتي سيقول بذلك. ومن ثمّ فإنه من الخطأ التعامل مع عشرات الملايين من اليمنيين أو العراقيين أو اللبنانيين أو السوريين أو الليبيين أو غيرهم مهما بغا بعضهم على بعض بوصفهم أجانب عن بلدانهم وأوطانهم، حتى لو كان لخلافاتهم جذور طائفية. ولا شكّ أن المسلمين في خير القرون اختلفوا، واقتتلوا، وبغا بعضهم على بعض، وخرج بعضهم على بعض، ولم يرفعوا ذلك الخلاف إلى مرتبة إنكار الحقوق الأصلية، ولسنا نقيس بالضرورة ما يجري اليوم في بعض البلاد العربية باقتتال المسلمين في خير القرون، ولكننا فقط نبيّن اختلاف مراتب الاقتتال.
ونحن هنا نذكّر بتجربتنا الخاصة في فلسطين، فإنّ حركة فتح، كانت تبغي علينا منذ سبعينيات القرن الماضي، فقد كانت تعتدي جسديًّا على الأسرى الإسلاميين في سجون الاحتلال وتتعاون في ذلك مع إدارات السجون الصهيونية، وحاولت وأد حركتنا في بداياتها في الانتفاضة الأولى، وافتتحت عهد السلطة الفلسطينية في غزّة باقتراف مجزرة مسجد فلسطين في العام 1994 أفضت إلى استشهاد 17 من عناصرنا وإصابة 200، وقد ظل عهدها بنا قمعًا وسجنًا وحرمانًا من الوظيفة حتى اليوم، ولم تتقبل فوزنا الانتخابي عام 2006، واشتبكنا معها في اقتتال داخلي عام 2007، وما زلنا نعيش آثار ذلك إلى اليوم، والعشرات من شبابنا في هذه اللحظة في الضفة الغربية في سجونها التي يسميها شعبنا مسالخ، ومع ذلك لم نرفع خلافنا معها إلي مرتبة الخلاف مع العدوّ، بالرغم من سياساتها التي باتت أقرب إلى تمظهر أمني للعدوّ، ولم نكفّ عن محاولة الصلح معها، أو استنهاضها وطنيًّا، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه منها وطنيًّا.
وعلى أية حال، فإنّ خاتمة العلاقة معها في يوم ما لا بدّ وأن تفضي إلى تسوية، وعلى الأقل لن نجعل عشرات الآلاف من منتسبيها والمستفيدين منها وداعميها، في منزلة العدوّ. وهذا ما لا بدّ من حصوله، في وقت ما في مجالنا العربي، وبين بلادنا العربية وجيرانها المسلمين من غير العرب، فالكل أصيل في المنطقة وإن بغى بعضهم على بعض.
وهذه الرؤية التي نحملها، كما اتضح من تجربتنا الذاتية، ليست تفضيلاً للدم الفلسطيني على غيره، وإلا لكنّا فضلنا دمنا على دم خصومنا داخل فلسطين بعدما بغوا علينا هذا البغي والطويل. وإنما هي، كما سلف بيانه، رؤية شرعية وتاريخية وواقعية.

خامسًا- إنّ حركة حماس، شديدة الأصالة في منشئها وانتمائها لأمّتها، فقد نشأت الحركة داخل فلسطين بعوامل ذاتية صرفة، وأمّا وجودها في العالم فقد اتصل اتصالاً وثيقًا بالحركة الإسلامية وهموم الأمّة وقضاياها، وإن الطبقة التي تقود الحركة اليوم، ممن نشأت في الانتفاضة الأولى وقبلها، إنما تبلورت في هذه الظروف الأصيلة فلسطينيًّا وإسلاميًّا، وتشبعت من أدبيات الحركة الإسلامية التي كانت تحشد هموم الأمّة وقضاياها ومشكلاتها، وهي ما تزال تحرص على الاتصال والتواصل مع كل أطراف الأمة وقضاياها، فليس ثمة خشية على هوية الحركة، ولا على وعيها بمستويات العلاقات والتحالف والتشارك، فهي تقيم علاقاتها بوعي تام بنقاط الالتقاء والافتراق. وهي إذ تتواصل مع العلماء والمشايخ إنما تفعل ذلك في سياق وعيها بنفسها وهويتها ومشروعها والحواضن الأصلية لهذا المشروع.

سادسًا- يدرك علماؤنا ومشايخنا أن ما نحن بصدده نازلة، تحتاج تكييفًا خاصًّا سواء كنا بصدد حكم شرعيّ أم بصدد مبدأ أخلاقيّ. والأوضاع الخاطئة لا تعطيها الشريعة الشرعية، لكنها قد تتعامل معها لسبب أو لآخر، وهذا ما تقوم عليه السياسة الشرعية في الجملة. وحينئذ يكون النقاش في المكاسب إن كانت متحققة أم متوهمة، وهو نقاش يستدعي التفهم والتسامح وينبغي أن ينبني على الثقة وإحسان الظن.

القسم الثالث: في دواعي استعادة العلاقة بالنظام السوري.

على ضوء ذلك، من بيان خصوصية اللحظة الجارية وما فيها من حرج شديد لنا ولقضيتنا وأمتنا، وبيان حال الأمة وانقسامها وعجزها، وكوننا لا ننطلق في سياساتنا من نزعات حزبية أو وطنية ضيقة لا تلاحظ الأمة، كما لا ننطلق بدوافع برغماتية لا تراعي الموالاة الإيمانية والمسؤولية الأخلاقية، يبقى نقاشنا مع علمائنا ومحبينا وإخواننا في كل مكان، حول دواعي استعادة العلاقة، وهي مجدية أم لا، وهو ما نتوقع بعده أن يعذرنا من يخالفنا إن لم تقنعه أسبابنا ودوافعنا، والتي منها:

أولاً- لم يعد التحالف الشرق الأوسطي الذي يدمج “إسرائيل” مع دول عربية أخرى، خافيًا على أحد، وإنكاره أو التخفيف من شأنه لمجرد رفض خيارات الحركة على أساسه، في اعتقادنا مكابرة وتنكب للإنصاف. وحتى لا نكرر ما سبق قوله، عن كونه تحالفًا يهدف في ما يهدف إليه إلى تصفية قضيتنا، وإلى سحق ما تبقى من روح الحركة الإسلامية وإرادة النهوض في هذه الأمة، وبما أن حركة حماس في صدارة المستهدفين من ذلك، فإنه لا يمكنها الانتظار إلى حين أن تدفع ثمن هذا التحالف، وهذا مما يستدعي منها توثيق علاقتها مع حليفها الوحيد القادر في المنطقة على دعمها بالمال والسلاح والإسناد السياسي الكامل، وهو إيران، ولا يمكن تعزيز هذه العلاقة إلا بحلّ عدد من المشكلات العالقة بين إيران وتحالفها من جهة والحركة من جهة أخرى. ووصفنا

ثانيًا- وقد سبقت الإشارة إلى قيود تعانيها الحركة، وقد تعاني أكثر منها، من أصدقائها، وهي وإذ تشير إلى ذلك، تعذر أصدقاءها وتشكر لهم ما أمكنهم تقديمه لها، وهي وعلى هدي مما سبق ذكره من كيفيات المواءمة بين الموقف المبدئي والواقعة السياسية المتحركة، لا تحمّل أصدقاءها ما قد يبدو لهم فوق طاقتهم، وإن كانت ترجو لهم تطوّرًا أفضل في الاستقلال عن التأثيرات الخارجية. لكنها لا يمكنها الانتظار حتى تجد نفسها وقد ضاقت خياراتها أكثر وأكثر، ووجد أصدقاؤها أنفسهم مضطرين لمزيد من فرض القيود عليها.

ثالثًا- إن العلاقة المستعادة، هي في جوهرها، مع سوريا، ولا يمكن استعادة الحضور في سوريا دون استعادة العلاقة مع النظام السوري، وهنا يصحّ النقاش. فإنّ القول إن النظام ضعيف ولا استفادة مرجوّة منه في مقابل المخاسر التي قد تتحقق للحركة، غير دقيق، إذا فهم جوهر العلاقة، وما سيأتي بيانه.

رابعًا- إن الاستفادة الأصلية من الوجود في سوريا، في كونها دولة طوق محاذية لفلسطين المحتلّة، وبالرغم من أننا لا نحمل أي أوهام حول قدرتنا في المدى المنظور على إطلاق مقاومة من الحدود السورية، فإنه ينبغي على الأقل ضمان وجود لنا هناك، قد يساهم في التأسيس لمقاومة كهذه في لحظة ما قد تتوفّر في وقت ما، ويضاف إلى ذلك أننا نحتاج الدعم اللوجستي هناك المتأتي من الوجود الإيراني في سوريا.

خامسًا- لا يمكننا ترك مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين في سوريا دون حضور كاف من طرفنا، في سياقات متعددة، منها الواجب الأصلي تجاه أهلنا في كلّ مكان، ومنها السعي لتطوير حضور أهلنا في الشتات ودورهم في القضية بعدما تراجع دور الشتات الفلسطيني مع تأسيس السلطة، وبات في طور الشطب مع السياسات الأخيرة لتصفية القضية الفلسطينية. ونحن منذ سنوات نسعى لإعادة استئناف دور الشتات الفلسطيني، للتصدي للمشاريع التصفوية، وللحدّ من استخدام منظمة التحرير الفلسطينية لتنفيذ تلك المشاريع، وهو أمر لا يمكننا النجاح فيه دون حضور كاف بين تجمعات الفلسطينيين كلها.

سادسًا- لقد تمددت حركة فتح والسلطة الفلسطينية في الفراغ الذي تركناه في سوريا، وحصلت المصالحة بين النظام السوري وحركة فتح على أنقاض وجودنا هناك ولا شك أن جانبًا من هذه المصالحة كان نكاية فينا، إلا أنه حقق مكاسب للمشروع التصفوي الذي تمثله سياسات حركة فتح، وبات مطلوبًا منا، بعد كل التحولات التي حصلت في السنوات الأخيرة، أن نقطع هذه الطريق على خصمنا السياسي، لا لأجل مصالحنا الحزبية، وإنما لأجل قضيتنا.

سابعًا- نسعى في السنة الأخيرة إلى تأسيس جبهة وطنية مناوئة لسياسات قيادة منظمة التحرير التصفوية للقضية الفلسطينية، ولا يمكن لنا تأسيس هذه الجبهة إلا بتحقيق جملة من الشروط، منها وجود عدد كاف من القوى الفلسطينية، ولو كانت قوى صغيرة، ومن هذه الحيثية نسعى لكسب القوى الفلسطينية الموجودة في دمشق، حيث أن العدد مهم ولو كانت القوى صغيرة، فقيادة السلطة تملأ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير من قوي لا يدري بها أحد، كما أن الجبهة التي نسعى إليها بحاجة إلى كسب شيء من الاعتراف الإقليمي، وهو اعتراف لا نتوقعه من دول التحالف الشرق أوسطي، وحينئذ لا بد من تحقيق اعتراف ما مما هو ممكن كإيران، وسوريا، وقوى أخرى قريبة منهما.

ثامنًا- إن مشاريع التقسيم لسوريا ماثلة في الأفق، ونحن نعتقد أن هذه المشاريع غير بعيدة عن الخطط الدولية والإقليمية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، تمامًا كما حصل بعد الحرب العالمية الأولى حينما أعيد تقسيم المنطقة من حول فلسطين، لتحويلها إلى منطقة عازلة، ونعتقد بناء على ذلك ضرورة وجود لنا في سوريا، قد يمكنه التأثير في الواقع السوري بما يواجه خططًا كتلك.

تاسعًا- لا يخفى على أحد الاتصال الوثيق بين لبنان وسوريا، من النواحي كلّها. ونحن نسعى إلى تطوير وجودنا في لبنان، وهذا يحتاج منّا بالضرورة وجودًا وطرق إمداد واتصالاً مع الساحة السورية.

عاشرًا- للحركة العديد من الكوادر والعناصر في السجون السورية، فضلاً عن غيرهم من الفلسطينيين، ومن واجب الحركة إنهاء ما يمكن إنهاؤه من معاناة هؤلاء. فالميسور لا يسقط بالمعسور كما نتعلم من المشايخ الفضلاء، وفي الحديث: “وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم”.

هذه عشرة كاملة، وقد تركنا غيرها إيثارًا للاختصار، وقد يقال انتظروا حتى تصبح تلك المصالح أقرب للحقيقة منها للفكر والظنّ. ونحن وإن كنا نعتقد أن كثيرًا من تلك المصالح، وغيرها مما لم نذكره، نراه أقرب للتحقّق، فإن السياسة تقتضي عدم الانتظار، والمبادرة والمغامرة المحسوبة، وإلا لوجدنا أنفسنا خارج العالم والتاريخ، وهو ما لا يمكن أن يتخيله مشايخنا لنا.

خاتمة: مخاوف وإجابات

نعتقد أننا في ما سبق ذكره، قد أجبنا على بعض أهم ما قد يطرأ على الذهن من مخاوف أو أسئلة أو نقد، كالظنّ أن دوافع الحركة حزبية ضيقة أو قطرية عصبية، أو أنها تخلو من ملاحظة أي ضابط ديني أو أخلاقيّ في حركتها، أو أنها قد تلتلبس هويتها وتختلط بهويات حلفائها، أو أن علاقتها بالنظام لن تكون مفيدة. ونرجو أنه في ما سبق قوله كفاية، ولذلك، نعرض مخاوف وأسئلة أخرى، ونجيب عليها باختصار.

أولاً- أنه لا شيء تغيّر منذ أن خرجت الحركة من سوريا حتى الآن في ما يتعلق بالنظام السوري حتى تستعيد العلاقة معه.

وهذا الكلام غير دقيق، لأنه منصبّ على ملاحظة سلوك النظام السوري، ولا يلاحظ مجمل المتغيرات في المنطقة والعالم، منذ تلك الساعة، وقد ذكرنا جانبًا من تلك المتغيرات، لكن أهم المتغيرات، هو انكسار الثورات العربية، وعودة النظام العربي القديم بوجوه جديدة لتسيد الموقف بشراسة أكبر وبتحالف مكشوف مع العدوّ. فإذا كانت الحركة قد خسرت الكثير ولسنوات بخروجها من سوريا (وهي الطرف غير السوري الوحيد الذي دفع ثمن الأحداث في سوريا)، فإنّها عوّلت على تحوّل في الإقليم العربي، ولاسيما في مصر، يدعم الحركة، ويخدم مشروع تحرير فلسطين في النهاية، إلا أنّ ذلك كله انهار، ومشايخنا والعديد من إخواننا في المنطقة العربية، يدفعون ثمن ذلك الانهيار، فما المصلحة المتحققة لهم من استمرارنا نحن في دفع الثمن، إذا كنا يمكننا تجنبه الآن؟ هل من المصلحة تكثير المتضررين أم تخفيف الضرر قدر الإمكان؟ فكيف إذا كان في تخفيف الضرر مصلحة في النهاية للجميع لا لنا وحدنا. فنجاة أي أحد منا، هو نجاة لغيره بالضرورة.

ثانيًا- أنه لا شيء تغير في سوريا قتلاً وقمعًا، وأن استعادة العلاقة ستكون مؤلمة لملايين السوريين:

  • لا نعتقد أن حركة حماس هي التي ستغير الواقع السوري، لاسيما مع ملاحظة تحوّل مواقف دول تجاه سوريا، وإن كان ذلك لأسباب غير أسبابنا. ومع ذلك فثمة جملة عوامل ينبغي إدراكها متصلة بهذا الموضوع:
    أن الحق والعدل لا يتوقفان على مستوى القتل والإجرام. وقد سبق بيان ما لدينا من مقتضيات الحركة السياسية، وقد سبق للحركة وتعاملت مع الحكومة السورية لسنوات بالرغم من كل الأحداث في سوريا منذ أواخر السبعينيات، وقد تفهم إخواننا ذلك، فطالما أن المبدأ مقبول، فإن النقاش ينحصر حينئذ في المصالح السياسية، وإلا لفرق مشايخنا بين المتماثلات، بلا وجه معتبر من التفريق.
  • إن أطيافًا عديدة في المعارضة السورية تعاملت مع النظام، بمفاوضات في أكثر من مكان في هذا العالم، مما يعني أن هناك استعدادًا مبدئيًّا للتسوية، ومهما تشددت أوساط في مسألة النظام أو رأسه، فهي في النتيجة سوف تضطر لتسويات مع حواضنه الداعمة له، أو المهادنة له، والتي تعد بالملايين، وهذا فضلاً عن تسويات عديدة حصلت في الميدان، وفضلاً عن التباسات عديدة ناجمة عن اقتتالات داخلية في الطرف المقابل للنظام.
  • النظر للمشهد السوري ينبغي أن يكون من زواياه كلها، ومن ذلك تقييم إن كانت الثورة مستمرة أم لا، وهل ما حصل من اقتتال بعد مراحل الثورة الأولى حرب أهلية أو ثورة. ونحن نسمع من الإخوة السوريين تقييمات متفاوتة لذلك، ولا شك أن لنا تقييماتنا أيضًا، والحاصل أن المشهد السوري اليوم لم يعد كما كان في 2012/ 2013.
  • والحركة لم تقرر القطيعة مع النظام، وإنما قرت الخروج من سوريا، لعجزها عن تمسكها بموقف الحياد الإيجابي، وهو ما انتهى إلى القطيعة دون رغبة من الحركة.
  • يتفهم العديد من الإخوة في المعارضة/ الثورة السورية علاقات دول وأنظمة، بمستويات متعددة مع النظام السوري، وحجتهم في ذلك أن حسابات الدول مختلفة عن حسابات المقاومة والثورات. وهذا كلام مطلق، لا بد من تقييده بوقائع السياسة على الأرض. وعلى أية حال، إذا قبل مبدأ وجود العلاقة من دولة، فينبغي على الأقل قبول مناقشته من مقاومة أو ثورة لا رفضه مطلقًا. وعلى ضوء ما سبق ذكره، وعلى ضوء أن خيارات الدول أوسع بكثير من حركة محاصرة، فإنّ التسامح مع حماس ينبغي أن يكون أكبر.
  • لقد قال المجلس الإسلامي السوري بعدما تبينت مشاركة الشيخ أسامة الرفاعي مع العلماء في لقاء قيادة الحركة حول هذا الموضوع: “إن المجلس الإسلامي السوري يزن مواقف الدول والجماعات والأفراد قربًا أو بعدًا بميزان ثورتنا السورية العادلة”. فإن كان الأمر كذلك، فهل يحق لحماس أن تقول الأمر نفسه وأنها تزن مواقف الدول والجماعات والأفراد قربًا أو بعدًا بميزان القضية الفلسطينية؟ لو قالت الحركة ذلك لاتهمت بالفلسطنة والقطرية وتصنيم القضية الفلسطينية والتمركز حول الذات وتفضيل الدم الفلسطيني على غيره، وهي تهم لم تزل الحركة تتهم بها لمجرد علاقتها بإيران، أو تصريح قد لا يراه الأخوة موفقًا. لكن الحركة لم تقل ذلك، ولا تقوله، بل تعتقد ما سبق بيانه أنها تدافع عن الأمة كلها لا عن الشعب الفلسطيني وحده، وأن هزيمتها وانكسارها هي هزيمة للجميع. ومع ذلك نتفهم الحساسيات الداخلية للإخوة السوريين، كما نتفهم خطاب المكلوم المجروح النازف، لكن هذا النقاش يحتاج عقلاً حاضرًا لا عاطفة مستبدة. كما أن الإخوة بالفعل لا يزنون الجميع بميزانهم هذا، وإلا فإنّ الصوت ضدّ الحركة أعلى، وإذا كنا نحسب ذلك قسوة المحبّ، فإننا نخشى في الوقت نفسه من أن الموقف من حركة محاصرة لن يكلّف أصحابه ثمنًا مقارنة بهذه الدولة أو تلك.

ثالثًا- أن العلاقة بالنظام السوري سوف تحرم الحركة وفلسطين تعاطف شرائح وقطاعات واسعة مع الأمة:

  • سبق القول إننا وبالرغم مما نرجوه لأنفسنا من الاندراج في المعنى الإيماني للأمّة، فإنه لا يمكننا بذلك الغفلة عن واقعة التمزق والعجز السياسية التي تعاني منها الأمة، إلى درجة تحالف دول منها مع عدونا، وإذا كان هذا حال النظام الرسمي العربي، فإنّ القوى الشعبية عاجزة في هذه اللحظة. وليس أمام الحركة أن تكون بدورها عاجزة.
  • إذا كانت الأمّة، بعد تعافيها، سوف تتخلّى عن فلسطين، بسبب خيارات لحركة فلسطينية اختطتها ساعة ضعف الأمة وتمزقها وعجزها، فهل هذه أمة موالاة إيمانية حقًّا؟ نحن نحسن الظن بأمتنا، ونعتقد أنها ساعة تعافيها ستكون الأمّة الأمّ التي تستوعب جميع أبنائها، والأمة المرحومة التي لا تتخلّى عن فلسطين ابتداء مهما فعل أبناء فلسطين، أو فعل بعضهم، فكيف والفاعل حركة محاصرة تكاد تقاتل وحدها عن مقدسات الأمة؟
  • إن الأمة لم تتخل عن فلسطين، وهي في بعض من حالاتها سوءًا، وكانت حركتها الوطنية علمانية منغمسة في صراعات عربية، فكيف سوف تتخلّى عنها إذا استعادت عافيتها؟
  • إن واجب العلماء تكثيف جهدهم لربط الأمة بفلسطين، ولا نقول بالضرورة الدفاع عن حماس، لكننا نعتقد أن الدفاع عن الحركة، على ضوء ما شرحناه يستحق من علمائنا على الأقل إعذارنا، ونقل هذا العذر للأمة.

رابعًا- أن الحركة قد تدفع ثمن تعزيز التحالف مع إيران، في حال تعرض التحالف الإيراني لهزيمة:

إن هذا خوف مقدر ومشروع، وهو داخل في عمق النقاش السياسي المطلوب. بيد أن الحركة لا يمكنها أن تكون في التحالف المعادي للقضية الفلسطينية، فهو تحالف يستهدفها في من يستهدفهم، فمنطق الأشياء يجعل الحركة في التحالف المقابل، فالأمر لا يكون متاحًا دائمًا للتوازنات والتجسير بين المختلفين، لكنها سوق تسعى لأن لا تدير ظهرها لأحد، وأن يكون اصطفافها محصورًا بالقضية الفلسطينية وأن تضبط خطابها بما يضمن ذلك.

خامسًا- أن تسعى إيران وحلفاؤها لتجيير الحركة لقضاياهم الخاصة غير المتصلة مباشرة بفلسطين:

تدرك الحركة هذا التخوف، لإدراكها لطبيعة العلاقات السياسية، وطبيعة حلفائها، لكنها ليست مفعولاً به، وتملك هويتها وذاتيتها وتعلم حاجة حلفائها لها، وهي عوامل مقدرة من حلفاء الحركة، كما تدرك الحركة أن التحالفات ليست علاقات خيرية بالمطلق، ولا بد وأن تنطوي على أخطاء ومشكلات وخسائر، وهو ما ينبغي أن تكون الحركة منتبهة له باستمرار لمعالجته وترميمه، وبنصحكم ومشورتكم.

سادسًا: الخشية من ركون الحركة للذين ظلموا:

نعتقد أن ما سبق بيانه من مقتضيات الحركة السياسية، بل والإنسانية في كل أبعادها الفردية والجماعية، التي لا يمكنها الانعزال عن أنماط من الاتصال والتعاون مع العالم المحيط، كاف في الإجابة على هذا التخوف، إذ علاقات الحركة لا تقوم على التعاون على الظلم أو المهادنة في الظلم، ولا نحسب أنّ العلماء الذين نخاطبهم، في تاريخهم الدعوي أو السياسي، دعوا لمقاطعة شاملة لكل المتلبسين بالظلم في العالم، ولا هم قاطعوا، وقد كان لبعضهم انشغالات واتصالات مع دول وأنظمة وحكومات وهيئات متلبسة بالظلم، وذلك لعلمهم أنّ المقاطعة الشاملة عدمية تحول دون واجبات ضرورية كثيرة، وتفضي إلى كفّ تامّ عن الفاعلية.
ولمّا كان الأمر كذلك، سيجد علماؤنا، وكلّ عامل في الساحة، أنه لا بدّ من العودة إلى تقدير العلاقات السياسية وفق متطلبات المرحلة، وبما ينبني عليه التمييز بين دركات الظلم، ومن ثمّ الظالمين، والبحث في مقاربة العلاقة بظالم مهما بلغ ظلمه بحسب المقتضيات التي تحفّ القضية، وحينئذ لا يمكن القطع بأحكام التحريم، طالما الأمر عاد لزوايا النظر.
ونحن هنا نذكّر بتورّع أئمتنا الكبار العظماء، حينما كانوا يعدلون عن إطلاق لفظ الحرام على ما يرونه بالنظر حرامًا، إلى قولهم مثلاً: “أكرهه”، بل ويتورّعون عن إطلاق لفظ الحلال ويعدلون إلى قولهم: “أرجو ألا بأس به”، وأمثال هذه العبارات التي اشتهرت عن الإمام أحمد، حتى بات معروفًا عن محققي مذهبه البحث في مقاصده من قوله: “أكرهه” هل يقصد التحريم أم الكراهة الاصطلاحية، ومثل ذلك موجود عند غيره، كالشافعي ومالك، وهذا قول أبي يوسف الصاحب الكبير لأبي حنيفة ينكر على الأوزاعي قوله: “حلال من الله عزّ وجل”. قال أبو يوسف: “ما أعظم الأوزاعي في قوله: هذا حلال من الله! أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام إلا ما كان في كتاب الله عزّ وجل بلا تفسير”. وقد نقل أبو يوسف عن ربيع بن خيثم الذي قال له ابن مسعود “لو رآك النبي صلى الله عليه وسلم لأحبك” نقل عنه أبو يوسف قوله: “إياكم أن يقول الرجل: إنّ الله أحل هذا أو رضيه! فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه، ويقول: إن الله حرم هذا، فيقول: كذبت لم أحرم هذا”، ونقل أبو يوسف عن إبراهيم النخعي عن أصحابه أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا: هذا مكروه، وهذا لا بأس به. وقبل ذلك ما أثِر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب بقضية إلى عامل له، فكتب الكاتب هذا ما أرى الله عمر، فقال: “امحه واكتب هذا ما رأى عمر، فإن يكن صوابًا فمن الله عز وجل، وإن يكن خطأ فمن عمر”.
ونحن ندرك أن مثل هذا لا يغيب عن مشايخنا، بل نتعلمه منهم، ولكن الذكرى، كما سلف قوله، أولى الناس بها المؤمنون.
ثم إنّ بعض مشايخنا، انتقدوا توجهنا هذا علنًا بوصفه ركونًا للذين ظلموا، كما قطع بعضهم بالحرمة، كما في قول شييخنا وإمامنا الددو حفظه الله: “لا يختلف اثنان من علماء أهل السنة أنها حرام”، وهذا قطع بالتحريم، ونص على الإجماع، وإن كنا لا نحسب الشيخ قصد ذلك، بالرغم من أن عبارات الفقيه ينبغي أن تكون دقيقة. فإنه ردّ الأمر إلى ثلاثة مآخذ، الآية، والتي سوف نأتي على نقاش الاستدلال بها، ثم المصالح كقوله إن القرار يشوّه الحركة بما يصعب الدفاع عنها، ثم كسر خواطر إخواننا ممن تأذوا، ثم دعا الحركة للمراجعة وبحث الأمر على بساط الفقه، وذلك كله ينطوي على دفع التحريم القطعي، وأمّا نفي اختلاف علماء أهل السنة في الأمر فمنتف بالواقع، فقد جالسنا عديد العلماء، وعلمنا أنهم لا يرون ذلك القطع بالتحريم، ويردّون الأمر إلى النظر في المصالح والمفاسد.
ونحن هنا نذكر لفضيلته دفاعه عن الحركة حينما هوجمت بعد تعزيتها بقاسم سليماني، وقد اعتذر للحركة ببعض ما نذكره في هذه الورقة، فأي شيء فرّق بين المتماثلات عند الشيخ؟ وما الذي جعل الحركة سابقًا محلّاً لاحتمال النصر وقد كانت في سوريا، ولن تعود كذلك في حال رجعت إلى سوريا، والنظام هو النظام؟!
وأمّا الاستدلال بقوله تعالى: “وَلا تَركَنوا إِلَى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ وَما لَكُم مِن دونِ اللَّهِ مِن أَولِياءَ ثُمَّ لا تُنصَرونَ”، فإنّ ردنا عليه (على الاستدلال لا على الآية)، بمناقشة دلالة الآية، ثم ببيان طبيعة علاقتنا مع النظام السوري ومع غيره.
فأمّا دلالتها، فقد اختلف السلف وأهل التفسير في “الظلم” المذكور في الآية، هل هو الشرك، كما هو عن ابن عباس، وقتادة، ومقاتل، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ولعل مرجعهم في ذلك قوله تعالى: “إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظيمٌ”، أم هو مطلق الظلم، كما ظاهر الآية، ثم اختلفوا في معنى الركون، ونحن نذكر طرفًا من تلك الأقول.
فقد نقل عن ابن عباس تفسيره للآية، بأنه الركون إلى الشرك.
وأما قتادة فنقل عنه قوله: “لا تلحقوا بالشرك، وهو الذي خرجتم منه، وليست -والله- كما تأولها أهل الشبهات والبدع والفراية على الله وعلى كتابه”.
وأما مقاتل فقال: “ولا تميلوا إلى أهل الشرك، ولا تلحقوا بهم فتمسكم النار”.
وأما عبد الرحمن بن أسلم فنقل عنه قوله: “الركون الإدهان. تركن إليهم، ولا تنكر عليهم الذي قالوا، وقد قالوا العظيم من كفرهم بالله وكتابه ورسله. قال: وإنما هذا لأهل الكفر وأهل الشرك”.
وقد ذهب إلى مثل ذلك من المعاصرين ابن عاشور بقوله: “الركون: الميل والموافقة… وهو هنا مستعار للموافق، فبعد أن نهاهم عن الطغيان نهاهم عن التقارب من المشركين لئلا يضلوهم ويزلوهم عن الإسلام. و(الذين ظلموا) هم المشركون”.
وأما غيرهم فقد فسر الركون بمعان منها: الميل، والمداهنة، والذهاب إليهم، والرضا عن أعمالهم، وإطاعتهم والتودد إليهم واصطناعهم، والدنو منهم.
ولا شكّ حينئذ أن الاستسهال في الاستدلال بالآية مشكل، وقد عانت الحركة، وعانت العديد من أطياف الحركة الإسلامية، بل وعانى علماؤنا ومشايخنا، من رفع سيف هذه الآية على رقابهم، من قوى وتيارات أخرى كالسلفية الجهادية وحزب التحرير وغيرهما، وكان يفضي استدلال بعض جماعات السلفية الجهادية بهذه الآية، وحملها على معنى واحد والقطع به، إلى تكفير الملايين من المسلمين وإزهاق أرواحهم، وقد كنتم ترفضون ذلك منهم وتردّونه عليهم، وتلاحظون خطر تلك الطريقة في التفكير الفقهي فكيف نعود بها للاستدلال على بعضنا، مما يعود بالتصويب على طريقة مخالفينا الذين كفرونا وكفروكم؟
وقد كانت الحركة، وما تزال، والعديد من أطياف الحركة الإسلامية، يقيمون علاقات واتصالات، مع أطراف لن تخلو من أن توصف بالظلم، وأن يختلف الناس في تقييم ظلمها، وفي جدوى العلاقة معها، فكيف يصح حينئذ التفريق بين المتماثلات؟ أو القطع بأن هذه العلاقة ركون للذين ظلموا وتلك لا؟ وأن هذه العلاقة مغتفرة وتلك لا؟ إنه لا مناص عنذئذ من العودة لتقليب وجوه النظر في المكاسب والخسائر، وهذا لا يمكن القطع فيه بحرمة أو زعم الإجماع فيه.
ولا شكّ أن كثيرين من مريديكم، على محبتهم لكم، سوف يسألون، أيّ شيء خصّنا دون غيرنا، ثم خصّ علاقتنا بالنظام السوري ثم إيران، بهذا التشديد، دون غيرنا، ممن استعانوا بالولايات المتحدة والنيتو من ثورات وحركات وقوى وهيئات، وبدول عربية كان لكم فيها علاقات وحضور قد انقلبت علينا وعليكم اليوم، ودعمت قمع الثورات، وساهمت في قتل الآلاف، وكانت دائمًا في حماية الولايات المتحدة، ولم يخل تاريخها من اعتقال الآلاف من العلماء وشباب الصحوة، وها هي تعيد كرّتها في ذلك اليوم. ونحن على ثقة أنها لو عادت وفتحت أبوابها لكم، ولو مواربة، لعدتم إليها، ولم تروا بأسًا في استعادة العلاقة معها، فما الأمر المختلف هنا؟ هل هو الاعتبار الطائفي؟ أم هول الحدث وضغط اللحظة؟ ونحن لا ننكر أن تلك اعتبارات قد يكون لها وزنها، لكن التعلّق بها حصرًا يشكل على الفقيه وعلى إنصافه في نظره.
ولمّا كانت علاقتنا بأي جهة، ليست ميلاً إلى الشرك، ولا رضًا به، ولا تأييدًا له، فلم يبق بعد ذلك إلا أن نفحص هل سيكون في علاقة مداهنة للظلم أو إبداء الرضا به؟
وقد سبق وقلنا إنّ علاقتنا بالدول محصورة بالقضية الفلسطينية، وليست بالقضايا الخاصة بتلك الدول، بمعنى أننا لسنا في تحالف مع أي دولة في ما لا يخصّ القضية الفلسطينية، فلسنا طرفًا في حروبها ومعاركها وتربيطاتها وتحالفاتها التي تصطدم مع أطياف أخرى في الأمة، كما أنّنا لسنا جزءًا من خلافاتها الداخلية، وليس ذلك بنظرة قطرية ضيقة كما سلف بيانه من كوننا نرى أنفسنا على ثغر للأمة ترتبط به الأمة كلّها صعودًا وهبوطًا.
ولما كانت علاقاتنا محصورة بالقضية الفلسطينية، فإنه ليس في علاقاتنا مداهنة لظلم ظالم، إلا إذا فهم أن مجرد السكوت مداهنة. مع أن السكوت قد يكون قرينًا لإنكار القلب المنكر، وهو أدنى مراتب الإنكار، وإنكاره باللسان أو اليد منوط بالاستطاعة، التي هي غير منفكّة عن تعقيدات مهمتنا وحاجات ثغرنا والظروف المحيطة بنا.
ونحن نختم في تحقيق قضية الركون هذه، بقول الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره مفاتيح الغيب: “قال المحققون من أهل العلم: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة. أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم، ومشاركتهم في شيء مما هم عليه من المخالفات والمنهيات؛ فأما مداخلتهم لرفع ضرر، واجتلاب منفعة عاجلة، فغير داخلة في الركون.”
ولا نشك في أنكم لا تظنون بنا الرضا بما عليه الظلمة، أو تحسين طريقتهم أو تزيينها أو مشاركتهم في ظلمهم، ويبقى أننا نسدد ونقارب لدفع ضرر واجتلاب منفعة. وهذا مما يخضع لتداول النظر لا القطع بالتحريم.
ويبقى في ما ذكره شيخنا الددو، أن في قرار الحركة ما قد يصيب إخواننا بالحزن، وهو أمر نعرفه ولا ننكره، وإن كنّا حتمًا لا نريده ولا نحبه ولا نقصده، أي أن نصيبهم بالحزن، لكن لا يخفى على مشايخنا أن قصد مصلحة ما على ضوء ما شرحناه في هذه الورقة بطولها قد يفضي إلى مفسدة، وإخواننا أنفسهم، وغيرهم في هذه الأمة، قد قصدوا في طلب الدعم دولاً وجهات هي على عداوة مع أطياف في الأمة، بل مع الأمة كلّها، ولم نر مثل هذا النكير الذي هو علينا، إذ ما سبق وصفه من حالة التجزئة والعجز يقتضي تلمس المصالح، ويبقى بعد ذلك إن حصل شيء من تناقض المصالح التسامحُ والتغافر وإحسان الظن، لاسيما وأننا لا يمكننا أن نعين أحدًا على أحد من المسلمين ولو بكلمة فضلاً عن السلاح والقتال، فيكون الأذى حينئذ معنويًّا يمكن مدافعته بالكثير من إحسان الظنّ والتفهم، والنظر بعيون بعضنا، وتذكر ما نجيزه لأنفسنا، فلا نتهم غيرنا إن اقترف ما أجزناه لأنفسنا، وذلك على وفق رؤية تأسيسية، لا بمحض الهوى والنفعية، وقد حاولنا بيان هذه الرؤية في هذه الورقة في حدود الوقت والاستطاعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى