كلمة لا بد منها.. حول المقاومة في الضفة الغربية

هيئة التحرير
لم تكن التشكيلات العسكرية في شمال الضفة الغربية سوى البداية التي أفسدت حالة الأمر الواقع وأعادت رسم قواعد جديدة لمعادلة المواجهة والاشتباك، وذلك بعد سنوات من تجريف الحالة الوطنية وهيمنة سلاح السلطة والعشائر والفلتان على الفضاء العام، والأخطر من ذلك كله زيادة حضور وإجرام الحركات الاستيطانية التي باتت تتجرأ على أبناء شعبنا وتتغول على أراضيهم ومناطق تواجدهم. لذلك، فإن هزيمة الأمر الواقع ومنع تمدد المشروع الاستيطاني دون ضجيج أولوية لا ينبغي التنازل عنها أو التساهل بشأنها.
يمكن مُقاربة الحالة الثورية التي نشأت في جنين وتطورت في نابلس وتمددت إلى مناطق الضفة الأخرى من عدة زاويا: أولها، باعتبارها حالة استلهمت الروح النضالية من بيئتها ومن شخصيات شبابية بذلت للفكرة من دمها، فلا يمكن الحديث عن كتيبة جنين دون المرور على شخص جميل العموري الذي أطلق شرارة الاشتباك وقاد المخيم نحو الاصطفاف مرةً أخرى خلف فكرة المقاومة أثناء معركة “سيف القدس”، ولا يمكن الحديث عن عرين الأسود وتشكيلات المقاومة الأخرى في نابلس دون الحديث عن جميل الكيال الذي مثل استشهاده شرارة اتقدت في قلوب رفاق دربه “الدخيل” و”مبروكة” و”المبسلط” الذين مثلت حادثة استشهادهم نقطة التحول في التحاق شباب نابلس والبلدة القديمة في ركب المقاومة.
أما الزاوية الثانية: الفعل المقاوم في مدن شمال الضفة لم يكن خبط عشواء، بل تمكن من استقطاب عدد من الخبرات العسكرية التي تدربت وتعلمت فنون القتال، مثل تامر الكيلاني الذي تلقى تدريباً عسكرياً في الأردن أثناء عمله ضمن أجهزة أمن السلطة، وكذلك العديد من مقاتلي كتيبة جنين، وكتيبة بلاطة، وعرين الأسود، وغيرهم. فهذا الفعل المقاوم مصيره أن يتطور وأن يتعلم من دروس المواجهة والصراع مع العدو بعد حالة الانقطاع التي تسببت بها استراتيجيات العدو التي منعت تواصل الأجيال في الفعل المقاوم، وهو الأمر الذي يجرى العمل على تجاوزه في جنين من خلال عودة عدد من المطاردين والمقاتلين القدامى لمساعدة الشباب ونصحهم ومدهم بالخبرات اللازمة، مع الإشارة إلى أن الاحتلال تمكن خلال العقدين الماضيين من تطوير أدواته وقدراته العسكرية بصورة كبيرة مقارنة بما كان عليه الوضع في الانتفاضة الأولى والثانية، عدا عن دور حركات المقاومة في إسناد هذه التنظيمات ودعمها وتطوير أدائها على كافة الأصعدة.
لذلك تكتسب هذه الحالات المقاومة حيثية تميزها عن كثير من التجارب أنها نضجت من رحم البيئة التي انبثقت منها، وتجمع بين الانتماء لفكرة المقاومة والانتماء للمكان والإطار الاجتماعي الذي يجمع أفرادها، فلم يكن مستغرباً أن تكون البلدة القديمة ومخيم جنين مركزاً لعودة المقاومة المسلحة لمدن الضفة المحتلة.
أدرك الاحتلال مبكراً أن العمليات الفدائية التي ضربت قلب مدنه مطلع العام الماضي لم تكن سوى أحد مخرجات البيئة المشتعلة والمتفجرة في الضفة الغربية والقدس المحتلة، لذلك أطلق عملية “كاسر الأمواج” التي لم تذهب لمواجهة بُنى تنظيمية أخرجت منفذي العمليات، بل راح يواجه البيئة التي احتضنتهم، ولوح بالهجوم على غزة باعتبارها محرضاً ومؤثراً، وتصاعدت عملياته العسكرية والأمنية في مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية، الأمر الذي قاد لنتيجة غير محسوبة تمثلت في ضعف أكبر للسلطة ولحضورها الأمني، وأسهمت في تعزيز انخراط عدد من عناصر الأجهزة الأمنية في حالة المقاومة.
إن فاتورة الدم التي حاول الاحتلال جبايتها من أبناء شعبنا مقصودةً لذاتها لرفع التكلفة وللحديث عن انعدام الجدوى لصد المجتمع الفلسطيني عن الانخراط في مشروع المقاومة ولكبح عوامل الرفض المجتمعي للمشروع الاسيتطاني المتصاعد بصورة غير مسبوقة، في ظل البيئة الأمنية التي بذلت المنظومة الاستخبارية والعسكرية الصهيونية كل جهدها للإبقاء على الهدوء وتحييد المجتمع الفلسطيني فيها باعتبار ذلك أهم المكونات لضمان استقرار وتمدد المشروع الاستيطاني.
بلا شك يعترض مشروع المقاومة تحديات مرتبطة بتفوق الاحتلال العسكري وحضور السلطة الأمني لكن هذا التحدي لم ينجح في منع التحاق المئات في خط المقاومة خلال الأشهر الأخيرة، وسيكون هؤلاء الشباب لبنةً في طريق نضوج فعل مقاوم متطور، في ظل حالة التجريف السياسي الكبيرة التي حالت دون انخراط أجيال متعددة منذ الانتفاضة الثانية في الفعل المقاوم.
وفي المحصلة وعند النظر للنتائج الكلية، نجد أن العام الماضي كان الأكثر عنفواناً في الضفة الغربية منذ سنوات طويلة، وأسهمت التشكيلات المقاومة في استنهاض المجتمع الفلسطيني من خلال عمليات إطلاق النار المتعددة والنوعية ضد أهداف للمستوطنين ومواقع ونقاط لجيش الاحتلال، بالإضافة لزيادة العمليات الفردية وتطور أداء منفذيها.
ويُلاحظ أن النشاط الإقليمي والجهد الأمريكي بات يدور في أتون مواجهة هذه الحالة المقاومة، فنجد أن الاحتلال لم يتمكن بكل ماكينته العسكرية من معالجة هذه الظاهرة، ما استدعى تدخلاً أمريكياً مباشراً عبر تقديم خطة أمنية جديدة تستهدف استنهاض دور السلطة وتقليل التكلفة على دولة الاحتلال، في إشارة لطبيعة المأزق الذي وصلت له الجهود المبذولة صهيونياً وإقليمياً للتعامل مع الحالة التي تكبر يوماً بعد يوم، ويزداد تأثيرها لتطال مزيداً من المدن الفلسطينية، وتشكل بيئة لتطور الفعل المقاوم بما يتلائم ويتناسب مع البيئات الأخرى، ويقود لزيادة الإثخان في الاحتلال وتحسين ظروف وطبيعة الأعمال المقاومة.
المطلوب فلسطينياً حماية هذه الحالة وإسنادها ومواجهة رواية الاحتلال بشأنها والعمل على رعايتها وتطوير أدواتها، بما يمنع عملية الاستهداف المادي والمعنوي لعناصرها ومقاتليها ممن يحاول الاحتلال تحييدهم جسدياً، وتبذل السلطة جهدها لاستيعابهم في أطرها الأمنية وضمن منظومتها المتصالحة مع الوضع الراهن.
ولا بد أن نستحضر دائماً أن الاحتلال يستهدف إرادة القتال والصمود لدى أبناء شعبنا قبل أي شيء آخر، وبالرغم من تفوق الاحتلال بفارق قوته العسكرية وانتشاره على الأرض لكن فاتورة المواجهة ستكون دائماً أقل بكثير من فاتورة الاستكانة والقبول بالأمر الواقع، فدوام حالة الاشتباك واستمرار المجابهة ضمانة أساسية لحيوية المجتمع الفلسطيني وقدرته على التصدي للمخاطر الكبيرة المحدقة بالقضية الفلسطينية.